أن تكون فلسطينياً" في ذكرى النكبة

بين الفرح والحزن.. يبقى أطفال فلسطين هم القضية (مصطفى جمال الدين)

زينب سرور 10-05-2016

نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2016-05-10 على الصفحة رقم 6 – محليّات

 

بعد أربعة أيّام يجلس دايفد بن غوريون في قاعة متحف «تل أبيب». يحمل بين يديه وثيقة ما. ينظر إلى وجوه الحاضرين. يتمعّن في عيون أعضاء «الجمعيّة التّأسيسيّة اليهوديّة في فلسطين. يرى الزّهو فيها. يُمرّر نظره إلى مندوبي المنظّمات والأحزاب اليهوديّة في البلاد. وبعد شعوره بـ «الطمأنينة» يقرأ ما بين يديه. يتحدّث عن تاريخ الشّعب اليهوديّ. عن إنتاجه «ثرواته الثقافيّة والقوميّة والإنسانيّة». يستذكر تيودور هرتسل وإعلانه «حقّ اليهود في النهضة الوطنية في بلادهم». يتباكى على «الكارثة التي حلّت باليهود في الآونة الأخيرة بأوروبا». يتسلّح باعتراف الأمم المتحدة بحقّ الشعب اليهودي في إقامة دولته. وبصوتٍ ملؤه الثّقة، يؤكّد أنّه «غير قابلٍ للإلغاء». بعد أربعة أيّام يصدح نشيد «هاتفكا»، ومعناه الأمل، من قلب فلسطين. بعد أربعة أيّام يُعلن بن غوريون، من قلب الشّرق الأوسط، قيام دولة «إسرائيل».

يومها، كان لبعض العرب أملٌ بتغيير الواقع. كان هذا سبباً لدخول جيوشهم، بعد يومٍ من قراءة وثيقة «الاستقلال» في العام 1948، الأراضي الفلسطينيّة. لكنّهم سرعان ما خرجوا مهزومين. بعد تلك الأحداث أُجبر 860 ألف فلسطينيّ على اللّجوء إلى غزّة والضّفّة الغربيّة وسوريا ولبنان والأردن، وكذلك مصر والعراق. ومنذ ذلك التّاريخ، منذ 14 أيّار 1984، أصبح ابن فلسطين عنواناً لقضيّة مُتعَبة، وطفل فلسطين عنواناً لبراءةٍ تائهة.

الأمل في «بيت الصّمود»

ولأنّ الفلسطيني يعي معنى «الوقوف وحيداً»، قرّر الاهتمام بـ «إنسانه» منفرداً. «بيت أطفال الصمود» ترجمةٌ لذاك القرار. في ذكرى تأسيسها الأربعين، تستمرّ «المؤسّسة الوطنيّة للرّعاية الاجتماعيّة والتّأهيل المهني» (بيت أطفال الصّمود) في ما تقوم به: الاهتمام بالأسرة الفلسطينيّة عمومًا، والطّفل الفلسطينيّ خصوصًا. لم يُفضّل «البيت» حصر نشاطاته. قرّر التّوسّع. خلال أربعين عاماً استحدثت المؤسّسة أقساماً متنوّعة، أبرزها «مراكز الإرشاد الأسري» الّذي يُعنى بالصحة النّفسيّة.

بالنسبة لـ «البيت»، هذا العام ليس ككلّ عام. يُصادف مؤتمره «السّنويّ العاشر في الصحة النّفسيّة»، الّذي تنظّمه «مراكز الإرشاد الأسريّ» في قصر «الأونيسكو» يومي الجمعة والسّبت في 13 و14 أيّار، مع ثلاث مناسباتٍ هامّة: الذكرى الـ68 للنّكبة، الّذكرى الأربعون لتأسيس «البيت»، الّذكرى العشرون لتأسيس «مراكز الإرشاد».

لابن فلسطين، لطفلها كذلك، الحقّ برعايةٍ كاملة. الصّحّة النّفسيّة واحدةٌ من أشكال الرّعاية. ليس الاهتمام بالوضع النّفسيّ للطّفل الفلسطينيّ، خصوصاً في أماكن اللّجوء، هامشيّاً. تلك «البيئة البديلة»، الّتي يعاني أبناؤها انسلاخاً عن البيئة الأمّ، تحتاج دراسةً مفصّلة ومتابعةً دائمة. في الأحوال الطّبيعيّة يُعدّ ذلك أمراً ضروريا، فما بالك في البيئات البديلة الّتي تُعاني ضعفاً خدماتيا شديداً؟ ألا يُعدّ ذلك أرضاً خصبةً لتنامي الاضطرابات النّفسية والعصبية؟ ألا يؤدّي ذاك التّنامي إلى انعكاساتٍ على المجتمع المحليّ فالدّائرة الأكبر والأكبر؟

والآن، أليست مخيّمات اللّجوء الفلسطيني في لبنان وجهاً من وجوه تلك الأراضي الخصبة؟

لم يُثنِ ضعف الإمكانات واستثنائيّة الوضع الفلسطيني مراكز الإرشاد على المتابعة. للسنة العاشرة على التوالي، ينعقد المؤتمر. هذه المرّة العناوين مُعبّرة للغاية: «أن تكون فلسطينيّاً، حقوق الإنسان، الهويّة، والصحة النفسيّة». بعد ثمانيةٍ وستين عاماً على طرده من أرضه، و «تقاعس» الجيران عن حمايته كما يجب، يحتاج الفلسطيني إلى التعريف بنفسه. ما معنى أن أكون فلسطينياً؟ للسؤال أبعادٌ نفسيّةٌ يسعى المؤتمر إلى الإجابة عنها. إلى شرح مشاعر تختلج طفلاً أُبعد قسراً عن أرضه. إلى تفسير شعور الإنسان المكسور، المسلوب الحقوق، من يحلم يومياً بأرضٍ كلّما توافرت أساليب الوصول إليها، وجدَ نفسه أبعد عنها.

تشرح منسّقة مشروع الصحة النفسية ليليان يونس الكثير. توضح، لـ «السفير»، أنّ «الفكرة الأساسيّة من المؤتمر، الّذي يُقام بدعمٍ من جمعية «نوفاك» النّروجية، هي أن يكون هناك مكانٌ للقاء كلّ النّاس الّذين يعملون في مجال الصحة النفسية». هنا عتب. «لا اهتمامَ كما يجب بالأشخاص الّذين يكرّسون وقتهم لمتابعة الصحة النفسية للأطفال، أولئك يعانون تعباً شديداً بسبب المآسي الّتي يواجهونها في عملهم».

في المركز أطبّاء نفسيون، معالجون نفسيون، معالجون لغويون، معالجون نفسيون حركيون، وغيرهم. «مراكز الإرشاد الأسري» من المراكز القليلة الّتي تعمل بشكلٍ مهنيٍّ في ما يخصّ الاهتمام النفسي. في الأساس، أنشئ المركز بمبادرةٍ من الأمانة العامة لـ «الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية وبعض الاختصاصيين اللبنانيين والفلسطينيين». كانت مهمته تأمين بيت بديل للأطفال الذين فقدوا كلا الوالدين إثر مجازر تلّ الزعتر. في شباط من العام 1983، شملت المؤسّسة، ضمن مشروع «إسعاد الأسرة»، الأطفال الّذين فقدوا معيلهم في مخيّمي صبرا وشاتيلا. وسرعان ما توسّع هذا المشروع ليشمل الأطفال الأيتام في جميع المخيّمات على الأراضي اللّبنانيّة.

الأمور لم تعُد كذلك. لم يعُد الاهتمام مقتصراً على الفلسطينيين. يُدرك الفلسطينيون معنى التهجير، اللّجوء، الموت، لذلك، ترى الكثير منهم متعاطفاً مع «لاجئي العالم». منذ العام 2011، ومع بدء الأزمة السّورية، و «مراكز الإرشاد الصحي» يهتمّ بالأطفال اللّاجئين، السوريين على وجه التحديد. «نهتمّ بالفئات المهمّشة، المحرومة، نقدّم لها خدمات الصحة النفسية بشكلٍ مجّانيّ»، تقول يونس.

للطّفل الفلسطيني نصيبٌ كبيرٌ من «انتكاسة» الصحة النفسية. «تُعينه» المعارك الكبرى، والمُتقطّعة على ذلك. حرب غزّة الأخيرة في العام 2014 كانت محطةً مفصليةً في زيادة الاضطرابات النفسية لدى الأطفال. رصدت البرامج الصحية النفسية التابعة لوزارة الصحة الفلسطينية ذلك. الخوف من الموت، البكاء، الرعب، اضطرابات النوم، ارتفعت بشكلٍ مقلق. لم يعد الأطفال يرسمون الورود، اقتصرت رسوماتُهم على الصواريخ والقذائف. «الهبّة» فعلت فعلتَها كذلك. الاعتقالات الإسرائيليّة العشوائية. عمليات الدهم اليومية للبيوت. التنكيل. القتل. الاضطرابات الأخيرة بين الغزيين والاحتلال.

ومن «هناك» إلى «هنا» يتكرّر السيناريو. رُبما يتفوق «الهُناك» على «الهُنا» بمشهد «الموت» السريع، إلّا أنّ «الهُنا» يفوق «الهُناك بمسرحية «الاستنزاف البطيء». هناك، تعرف أنّ حقوقكَ تُنتَهك من العدوّ، لكنك هنا تقف عاجزاً أمام حقوقٍ تُنهَشُ من ابن الجلدة. هذا هو الاستنزاف.

بعد أربعة أيام ينطق بن غوريون بكلامٍ غيّر مجرى التاريخ: «إننا ندعو الشعب اليهودي في جميع مهاجره إلى التكاتف والالتفاف حول يهود هذه البلاد في الهجرة والبناء والوقوف إلى جانبهم في كفاحهم العظيم لتحقيق أمنية الأجيال وهي تحرير إسرائيل».

بعد أربعة أيام تبدأ عصابات الهاغاناه محاصرة مدن عربيّة عدّة على طول الطريق، تلك المنظّمة الّتي تُدين بتأهيلها إلى ضابطٍ بريطانيّ مسيحي عنصريّ معادٍ للعرب يُدعى أوردونغيت. بعد أربعة أيام يخرج رجلٌ فلسطيني، مع أطفاله الستة، من الوطن. يوقفه جندي بريطاني عند الحدود اللّبنانيّة ـ الفلسطينيّة الساحلية. يُخبره أنّ سلك الطريق صعب. تبدأ معاناة أطفاله. يقف حائراً. يُواسي نفسَه بـ «شراسة الإخوة». يأمل بالعودة قبل انبلاج الصباح..

يا تُرى كيف كانت لتكون ردّة فعل الرّجل لو عرف أنّنا، وبعد مرور 68 عاماً على النّكبة، ما زلنا ندعو إلى تحرير القدس؟

ملاحظة: يُقام المؤتمر يومي الجمعة والسبت في 13 و14 أيّار، من السّاعة 8:30 صباحاً وحتّى الـ4:30 عصراً في قصر «الأونيسكو». ويُقام يوم الجمعة حفلٌ فنّيٌ تراثيّ فلسطيني من الساعة الخامسة عصراً وحتّى الـ6:15 مساءً.