المذبحة... حين ظننا أن الحرب انتهت
حسن خيته، ألمانيا .
كانت صبرا تعجّ بالحياة بعد ثلاثة أشهر من الموت والدمار والحصار الإسرائيلي لبيروت. وكذلك كان مخيم شاتيلا، الضحية الحقيقية للمذبحة. كان الناس قد عادوا إلى منازلهم، وساد شعور مزيف بالأمان بينهم. شعور أوهم الكثيرين، ومنهم أنا، ابن الثلاثة عشر عاماً، بأن الحرب قد انتهت. أفقنا من هذا الوهم على نبأ مقتل الرئيس «المنتخب» بشير الجميّل. خرج أحد الجيران إلى شرفة منزله وأطلق زخة من الرصاص نحو السماء. كان شعوري عندها مزيجاً من الاشمئزاز والخوف. اشمئزاز ممن لا يحترم للموت حرمة، وخوف من أن يكون مقتل الرئيس المنتخب إشارة الانطلاق لموسم جديد من الموت والفناء. وجاء المساء .
في صباح اليوم التالي عادت الطائرات الحربية الإسرائيلية إلى سماء بيروت من جديد. كانت تحلق على ارتفاع منخفض كما لم يسبق لي أن رأيتها تفعل. ورغم ذلك لم أشعر بذلك الخوف الذي رافق تحليق الطيران طوال أيام الحصار. كان تحليقها منخفضاً لدرجة أني كنت ألمح النجمة السداسية على جسم الطائرة بسهولة. بل وحتى خيّل إليّ أني أرى الطيار وهو يلوّح لي بيده. بالتأكيد كانت تلك أوهام تخيلتها بعد ذلك .
عند الظهر عاد أبي ــ رحمه الله ــ إلى البيت، وكان خالي على ما أعتقد قد سبقه. تحدث الاثنان عن شائعات تقول إن الجيش الإسرائيلي يدخل في هذه الأثناء إلى بيروت. في صبرا حيث نسكن، لم نكن قد رأينا بعد أثراً لجيش أو معارك. قال خالي إن أحد معارفه أخبره أنه حين قدم من حيّ الفاكهاني المجاور، اضطر إلى المرور بين المدرعات الإسرائيلية عند منطقة المدينة الرياضية. تلك البسمة المرتسمة على وجوه الكبار حينئذ أوحت إليّ أن لا خطر يحدق بنا. وبقي هذا الشعور ماثلاً، رغم قرار العائلة باللجوء إلى مأوى العجزة، مكان عمل أبي ممرضاً وصيدلياً .
لا أذكر أن معارك حدثت بالقرب منا خلال اليوم الأول في المأوى. كل ما أذكره هو انفجار دكان قوارير الغاز في ساحة صبرا، والقنص الكثيف من جهة مخيم شاتيلا. وكان هناك من يعمل على إشغال القناص، فكانوا يربطون الدمى بالحبال ويسحبونها إلى مرمى نيرانه. وكنا نستمتع بهذا العرض المجاني .
كانت الغرفة التي أويت إليها تطل من جهة الجنوب على مخيم شاتيلا. لم يكن بالإمكان مشاهدة ما يحدث هناك، ولكن أصوات المجنزرات وأضواء القنابل المضيئة كانت واضحة. كنت أقضي وقتي أتابع ظلال حديد الشباك وهي تتحرك على الجدار كلما أطلقت قنبلة جديدة .
في إحدى الليالي جاء أحد زملاء أبي من المخيم، وعندما نتكلم على المخيم نقصد شاتيلا. أما مخيم صبرا، فهو مكان لم أسمع به ألا غداة المذبحة. فصبرا كانت بالنسبة إلينا مجرد شارع يبدأ شمالاً عند محطة الدنا في منطقة الطريق الجديدة، ويمرّ بساحة صبرا، وينتهي جنوباً عند مدخل مخيم شاتيلا ليصبح اسمه هناك للدقة: آخر شارع صبرا .
إذاً، جاء هذا الزميل، وبدأ البعض بالهزء منه. سمعت أحدهم يسأله بصوت مرتفع: حدثهم كيف مررت فوق الجثث في شاتيلا. فما كان من ذاك الزميل إلا أن أدار وجهه ومضى تاركاً وراءه وجوهاً مبتسمة. الكبار يبتسمون من جديد، لا خطر علينا إذاً .
لكن الشائعات كثرت، ونشرات الأخبار في الإذاعات أكدت لكل من رفض تصديق الحقيقة فداحة ما حصل. فكان القرار أن نفرّ إلى قلب بيروت، وخاصة بعد أن جاءت جارتنا مع عائلتها، وروت لنا كيف ساقهم مسلحون من شارعنا الذي يحمل الاسم الجميل «شارع الاستوديو العصري»، إلى المدينة الرياضية، وكيف انفجر لغم أرضي بالمجموعة، وكيف تمكنوا من الهرب وسط البلبلة. وجاءت روايات الناس عن الدم والجثث والخطف. البعض حدثونا كيف مروا في شاتيلا فوق أنهار من الدماء. وما كانت تلك بحكايات مبالغ بها .
كنا قد تعودنا أن نشد الرحال لعند خالتي كلما تأزم الوضع بصورة خطيرة في منطقتنا. وهكذا استقللنا شاحنة جارنا وتحركنا نحو بيروت، وبقي أخي الأكبر أسامة مع أبي في المستشفى .
بعد أن اجتزنا الملعب البلدي واقتربنا من جسر الكولا، بدت الطريق خالية بشكل مخيف. وأظن أن أمي أحست بالخوف من الوضع، فطلبت من جارنا التوقف. ونزلنا. مضينا في شوارع خاوية على عروشها، وازداد الخوف فينا كلما تقدم الوقت من غير أن نلمح ابن آدم واحداً يمشي في الشارع. هذه الشوارع الأكثر كثافة سكانية في بيروت، لكن ما من أحد يفكر اليوم بمغادرة منزله، الاحتلال هنا ونحن ماضون .
مررنا في طريق العودة بحيّ الفاكهاني وكلية الهندسة. وهناك بين ركام الكلية شاهدتهم لأول مرة: أول خاطرة مرت ببالي كانت: أشباح. كالأشباح كانوا يتحركون بين الأنقاض. لكأني بهم يعاينون بلذّة ما اقترفته أيديهم وطائراتهم. بل ربما ساءهم أن يبقى هذا البناء شامخاً رغم كل هداياهم المدمرة. ووسط زحام الأفكار جاء صوت أمي ينبهنا أن لا نطيل النظر إلى الجنود، وأن نسرع في المشي. وفكرت وقتها كيف أن بعض الحيوانات المفترسة تنزعج من النظر إلى عينيها .
وصلنا إلى المأوى. كانت المذبحة قد انتهت. وكبادرة لطمأنتنا تقدم الجنود وانتشروا في الشوارع. كانوا شديدي الحذر، ما دفع الكثيرين من الناس إلى وصفهم بالجبناء. وعرفت حينها لماذا يقتل منهم القليل في المعارك، ويتساقط شهداؤنا بالعشرات. نحن لا نخاف، الخوف عار. يوماً ما ستصحو هذه الأمة من سباتها لتجد شجعانها في المقابر، وجبناءها في المهاجر .
كانت المعارك في بيروت لم تنته بعد. كان تعليق أحدهم على الوضع في بيروت بالقول: الزلمة مش قابل يستسلم. كان يقصد إبراهيم قليلات والمرابطون. ولكن صمت «إذاعة صوت لبنان العربي» أعلن النهاية. آخر ما استمعت له من الإذاعة كان نداءً أخيراً لمن صمد حتى النهاية وهو يقاوم. ثم كلمتين: إنهم هنا .
في الأيام التالية تبيّن لنا أن النهاية كانت بداية شيء جديد، شيء دفع الإسرائيليين إلى الفرار من بيروت بأسرع مما كنا نتوقع. كنا نعتقد أن تسمية بيروت المحتلة ستصير أمراً عادياً، كما القدس المحتلة أو حيفا المحتلة. لكن العمليات الفدائية كانت تلاحق المحتلين. أقربها إلينا كانت عملية ذات ليل في كورنيش المزرعة. كان صوت الرصاص والقذائف يردّ لنا بعضاً من كرامة ذبحت قبل ساعات .
بعث الاحتلال رسالة إلى إدارة المستشفى بوجوب قدوم كافة الموظفين واللاجئين إلى المدينة الرياضية، لختم بطاقات هوياتهم. ولما كان من المستحيل ترك المرضى وحدهم، خرج وفد من الإدارة وتفاهموا مع الإسرائيليين على بقاء الموظفين وخروج اللاجئين للحصول على الختم. وتوجهت أنا وأخي الأكبر نحو المدينة الرياضية. وهناك كانت الأختام تعطى بعد التدقيق المعتاد. وعندما جاء دوري عجزت عن فتح الهوية المجلدة. فما كان من المحقق إلا أن قام بالمهمة عني. بالطبع بعد إلقاء ملاحظات ساخرة عن ارتباكي. ولكني في ذلك الموقف لم أكن خائفاً بعكس اللقاء الأول عند كلية الهندسة. ربما لأني لم ألحظ ما رآه أخي .
فبعد أن عدنا إلى المأوى أكد لي أنه رأى المتشرد الذي كان يقطن الكوخ المقام في الأرض المقابلة للمبنى الذى كنا نقطنه. وكان هذا المتشرد السابق يرتدي الثياب العسكرية الإسرائيلية. كان واحداً من مئات أمثاله مزروعين بيننا ولم يسأل أحد من أين جاؤوا.
في طريق العودة، كرر أخي ما قالته أمي من قبل: لا تنظر إليهم. لكن مرور الأمور بهذه السهولة لدى الختم، ومساعدة الجندي لي في تمزيق الهوية أغرياني، فمررت ببصري على مجموعة من الجنود يجلسون قرب جدار. ولم يطل الأمر حتى ناداني أحدهم. لم يشتم ولم يضرب. طلب بطاقات الهوية ودقق فيها، أو تظاهر بذلك ثم طلب منا متابعة المسير من دون النظر يميناً ويساراً، وإلا... كل الكلام بالعربية!
لا أذكر ردّ فعل أخي وقتها؛ لأني لم أنفذ كلامه، ولكن ما أخبرني به بعد أيام جعلني أتأكد أنه بنفسه لم ينفذه. فقد تكلم هو نفسه مع الجنود.
قال لي إن أحد الجنود حادثه بالإنكليزية وسأله إن كان فلسطينياً. فرد عليه بأن بلدنا في فلسطين هي الياجور قرب حيفا. فما كان من الجندي إلا أن قال إنه أيضاً من حيفا وإنه يحب فلسطين. نظرت إلى أخي ولم أصدقه حتى اليوم.
عندما خرجنا من المأوى، عدنا إلى بيت خالي. كان بيتنا قريباً جداً من المخيم، وكانت حكايات الموت تفزعنا وتجعلنا نحجم عن الرجوع. ذات يوم ذهبت وأمي إلى منزلنا لجلب بعض الحاجيات. عندما وصلنا إلى الطبقة الرابعة، السابقة لطبقتنا، اعترى أمي فزع شديد. فأسرعنا نزولاً لنلتقي برجالٍ يجلسون في مدخل المبنى. سألونا عن خطبنا فروت لهم أمي عن أصوات سمعتها كأنها من تهيئة سلاح آلي. ضحك الرجال بعضاً من الوقت ثم طمأنوا أمي بأن هناك جيران يلعبون الطاولة.
مرة أُخرى ابتعدت عن ملجئنا عند الخال. لست أدري لماذا نزلت إلى ساحة صبرا، ولكني التقيت هناك بامرأة قادمة من الطريق الجديدة. كانت تبدو لي كأنها تدخل المنطقة لأول مرة. على كل حال لم تكن من سكان صبرا. سألتني بلهفة إن كان ما يقال صحيحاً عن حدوث مذبحة في المخيم. وكنت قد سمعت في إذاعة لندن وصفاً لما حدث يذكّر بيوم القيامة. وسمعت روايات الناجين. ورغم ذلك قلت لتلك المرأة: غير صحيح، كل أولئك الناس ماتوا من القنص. لست أدري ماذا قالت عني بعد ذلك. المؤكد أنها فكرت بأني كاذب. ولكن لا يهمني، لقد أزعجني سؤالها.
أن يأتي أحد من الخارج ليتهمك بأنك ذبحت ليس بالأمر الهين، وأنت توهم نفسك طوال الوقت بأن ما حصل لا يمكن أن يحصل. أن يلصق أحدهم بشارعك وحيك وصمة البشاعة هذه، ليس بالأمر الجميل. ربما ذبحنا، نعم. ولكن لنا كرامتنا وكبرياؤنا الرافضان لأن نكون نعاجاً، أو أن نكون مدعاة لشفقة.
وربما لهذا السبب كنت أرتاح عندما أسمع من بعض الإذاعات العميلة أن الضحايا لم يزيدوا على بضع عشرات. وأكره أن أسمع تقديرات المسؤولين التي بلغت ثلاثة آلاف. ربما كنت أخجل. معذرة من تلك السيدة.
المهم أن وجود الاحتلال كاد يصبح عادياً، حتى إن أحد الجنود نادى زوجة خالي قائلاً بالعامية: يا حرمة عندك مية؟ تمنيت ساعتها لو أن معي سماً لأضعه في الماء، رغم يقيني بأني ما كنت لأفعل ذلك لو بيدي السم. ولكن تلك الأمنية كانت بداية لتخيلات تزاحمت في رأسي المهجوس بأماني الثأر.كثيراً ما كنت أرى نفسي أضرم النار في كوخ المتشرد. كنت أخطط ليلاً لعمليات كومندوس خطيرة، وأخلف، في منامي، الدمار في صفوف الجيش الإسرائيلي.
لكن الاحتلال لم يدم طويلاً. كانت ضربات المقاومة موجعة. وكانت بيروت أول هزيمة إسرائيل في لبنان. كانت هزيمة لاحقتهم في الجبل والجنوب حتى خرجوا عام 2000 مدحورين من لبنان.
خرجت إسرائيل وتركت وراءها رائحة الموت البشعة لأسابيع. خرجت ولكن الرعب كان يعاود زيارتنا من حين لآخر. كانت الشائعات تحمل المئات من الناس على ترك منازلهم والهرب نحو بيروت. كان منظر الجموع وهي تهرب من المجهول مضحكاً. لكن الدفعات التي كانت ترفد السيل الكبير كانت تحمل معها شعوراً غريباً يريد أن يقول إنهم قادمون. مرة من الشرق. ثم من الغرب. كان البعض يردد أن الجيش اللبناني مسؤول عن تلك الشائعات ليدخل إلى المنطقة، ويعلن للجميع أنه حامي الحمى. وهكذا كان، وكعادة الناس هناك، تطايرت رشقات الأرز فوق رؤوس الجنود.
وشيئاً فشيئاً طويت معظم صفحات كتاب المذبحة، ولم يبق سوى رأس السنة الجديدة وأخر الشائعات. كان السائد أن سعد حداد سيعود ليقدم للفلسطينيين هدية رأس السنة. ومر رأس السنة من دون مذابح. إلا أن الإخوة الطليان المشاركين في القوات المتعددة الجنسيات أبوا أن يمرّ رأس السنة بهدوء، فاحتفلوا على الطريقة اللبنانية الفلسطينية المشتركة، بإطلاق النار في الهواء.
ومع ذلك، فقد كانت القوات الإيطالية العامل الرئيسي في عودة الأمان إلينا. كانت مهمتهم حراسة المخيمات، وقد انتشرت الأساطير عن تفانيهم. فمن قائل إنهم اشتبكوا مع الجيش اللبناني لمنعه من التحرش بالمخيم، إلى قائل إنهم كانوا يقولون للجنود اللبنانيين: «هنا تبدأ فلسطين». لا دخول إلى المخيمات.
ومن تلك الأيام لم يعد يهمني ما فعل الأسطول الإيطالي من دمار في بيروت أيام العثمانيين, حتى شاعت المقولة البيروتية الشهيرة: كل الحق على الطليان, للتخلص من المسؤلية. ولا ما فعلوا في ليبيا وعمر المختار. صرت منذ ذلك الحين من المعجبين بإيطاليا, ولكن لسوء الحظ حطت رحالنا في مهجر آخر.
كانت دماء الشهداء في المخيم لم تحتفل بعد، بالذكرى الثالثة لعيد الرعب، عندما أطل الرعب من جديد بكل بشاعته علينا. وبدأت حرب المخيمات. وأضيفت حرب جديدة إلى سجل «الأحداث»، كما يحلو للبنانيين تسمية كارثتهم الوطنية وكارثتنا القومية. ولكن هذه حكاية أخرى.