دمة:
شهدت الأيام الماضية اهتماماً غربياً متزايداً بما يُثار حول اتهام تروّجه التيارات القومية الأرمينية ضد تركيا، بأنها قامت في نهاية الفترة العثمانية، وبداية حكم الاتحاد والترقي، وخلال أحداث الحرب العالمية الأولى بعملية إبادة عرقية منظمة للأرمن في تركيا، تصاعدت في عام 1915م بغرض القضاء الكامل على العرق الأرميني في تركيا ــ هكذا تروي السردية القومية الأرمينية، وهو ما ترفضه تركيا بقوة طوال العقود الماضية. والغرب يريد من تركيا الإقرار بالتهمة دون دفاع أولاً، ثم الاعتذار عنها ثانياً، ثم تقديم التعويضات المالية والإنسانية ثالثاً، وربما كذلك الحديث عن حقوق الأرمن التاريخية في الأراضي التركية رابعاً. والأهم مما سبق كله هو ألا تتحدى أو تعارض تركيا الافتراضات والمآلات التي تكون بمجموعها وجهة نظر طرف واحد من أطراف المشكلة وهو الطرف القومي الأرميني.
القرائن والوثائق التاريخية التي بحوزة الحكومة التركية تشير إلى مأساة إنسانية حدثت للمسلمين والأرمن في ذلك الوقت، نتج عنها موت مئات الآلاف، وكانت كارثة بحق، ولكنها لم تكن إبادة عرقية من طرف ضد آخر. اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1948م حول تعريف الإبادة الجماعية تنص على أنه ينبغي «أن يكون الموت عمداً بتخطيط ويكون بسبب ديني ــ مذهبي أو عرقي». ويؤكد الطرف التركي اليوم أن ما حدث للأرمن في ذلك الوقت هو مأساة وكارثة ولكنه لم يكن مشروع إبادة وإنما كان الأمر يتركز في دفاع دولة عن مصالحها القومية الاستراتيجية. إن موت أي إنسان بريء بسبب الحروب كارثة في حد ذاته، ولكن أيضاً استخدام هذا الموت للترويج للكراهية بين الشعوب جريمة لا تقل عن الجريمة الأولى بشاعة.
الثابت تاريخياً أن عدد السكان الأرمن في الدولة العثمانية لم يتجاوز مليوناً ونصف المليون نسمة في مطلع القرن العشرين طبقاً لإحصائيات الدولة العثمانية من جهة، وتقديرات بريطانيا وفرنسا وألمانيا من جهة أخرى. فكيف يمكن أن يُقتل مليون ونصف مليون أرمني قد خلال تلك الفترة نفسها؛ أي: الأرمن جميعهم بالدولة العثمانية .. في الوقت نفسه الذي تشير التقارير الإحصائية كلها أنه بعد الحرب العالمية الأولى بلغ عدد الأرمن الذين نجوا من ويلات الحرب ما يقارب المليون نسمة! لا شك أن مقتل أو موت ما يقارب نصف مليون إنسان في تلك الحرب هو رقم ضخم وكبير، ولكن هناك أسئلة كثيرة يجب أن تثار لفهم ما حدث وليس لتبرير أو إخفاء بشاعة هذه المأساة. هل قتل الأرمن على يد جيوش منظمة تهدف إلى إبادتهم أم أنهم كانوا ضحية صراعات بين متعصبين من الجانبين الأرميني والتركي، أم بسبب التهجير والفقر والمرض الذي أصاب الكثير من الأرمن والمسلمين على حد سواء في تلك الفترة؟ وما الذي حدث حقيقة في تلك الفترة؟ سؤال مهم لا يجب أن يتولى طرف واحد فقط روايته، أو إلزام العالم بتلك الرواية.
لقد شهدت تلك الفترة من الويلات والحروب مقتل ما يزيد عن 2.5 مليون مسلم في الدولة العثمانية نفسها، ومن جراء الحروب والكوارث نفسها التي ألمت بالدولة في ذلك الوقت، وفي النطاق الجغرافي نفسه، وقتل العديد منهم بسلاح التيارات الأرمنية العنصرية والقومية المتطرفة في ذلك الوقت. ويتساءل العديد من المراقبين عن سبب التركيز الغربي فقط على مأساة الأرمن، وفي هذه المرحلة بالذات، ولا يتم الحديث عن المآسي الأخرى الأكثر بشاعة في تلك الفترة.
يهدف هذا البحث إلى إلقاء المزيد من الضوء على تلك الأزمة المرشحة للتصاعد رغم أنها قد تم بحثها طوال الأعوام التسعين الماضية، إلا أن الواضح أن بعض الغربيين يرون أن إحياء هذه المشكلة يمكن أن يساهم في تحجيم طموحات ونهضة تركيا المعاصرة. ويتكون البحث من ثلاثة موضوعات رئيسة، وهي أولاً: هل حقاً حدثت إبادة للأرمن؟ وثانياً: لماذا بدأ الغرب مؤخراً فقط في إثارة هذه القضية رغم نفيه لحدوث إبادة أو مذبحة طوال العقود الماضية؟ وثالثاً: ما تأثير هذه الأزمة على صعود تركيا، ونهوضها الاقتصادي الشامل؟ كما يقدم البحث في الخاتمة مجموعة من التوصيات حول الموقف المسلم والعربي من هذه القضية.
هل حقاً حدثت إبادة للأرمن؟
الأصل في علاقة الدولة العثمانية بالأرمن كان الحماية وتوفير الفرصة. وكان السلطان محمد الفاتح هو أول من أحضر الأرمن إلى أروقة الدولة العثمانية وقياداتها السياسية، وكانت الدولة العثمانية والشعب التركي يسمون الأرمن «ملتي صادقات» أي «الملة الصادقة» وهو بالطبع وصف إيجابي لا يستقيم معه أن هذا الوجود الذي استمر لعشرات العقود يمكن أن ينتهي فجأة بمشروع إبادة ـ كما يدعي بعضهم.
كان الأرمن جزءاً من الدولة العثمانية التي عرفت دولياًً بالتسامح ووجود عدد كبير من الأعراق والمذاهب والملل ضمن بنيتها التنظيمية والاجتماعية. ومع ظهور علامات انهيار وتفتت الدولة العثمانية تحت ضربات الحصار الأوروبي والروسي لها، وعدم قدرتها على الحفاظ على أراضيها؛ بدأت الكثير من الأقليات في الانفصال عن الدولة، وانتشرت المكائد الأوروبية ضد الدولة العثمانية بشكل لم يسبق له مثيل، وهو ما أسفر لاحقاً عن تنحية السلطان، وظهور حركة الاتحاد والترقي بديلاً للخليفة، وكانت في ذلك حركة قومية تريد الحفاظ على ما تبقى من الدولة العثمانية فيما تحول لاحقاً إلى تركيا المعاصرة. كان بعض المتعصبين من الأرمن من ذوي الميول الانفصالية والقومية يساهمون في خلخلة الكيان الداخلي للدولة العثمانية من خلال المكائد والتخابر لصالح أعداء الدولة من الروس والأوروبيين، وشن الهجمات الداخلية، ومحاولة إضعاف الدولة لكي تتحقق لهم مكاسب مادية ومعنوية تتمثل في إقامة أرمينيا الكبرى حتى ولو على أنقاض دولة قائمة تحاول الحفاظ على ما تبقى لها من أراض وقوة. ومن المهم قبل الولوج في دوامة تاريخ تلك الحقبة أن نؤكد على التالي:
- كانت فترة بداية القرن العشرين مليئة بالحروب والصراعات الداخلية سواء كان ذلك في كيان الدولة العثمانية، أو في الانتقال منها بعد سقوطها إلى الجمهورية التركية، وصاحب ذلك العديد من التجاوزات والكوارث التي تعرض لها مختلف أبناء المجتمع التركي من مسلمين وأكراد وأرمن وغيرهم. ومن ثم لابد من فهم أحداث تلك الحقبة ضمن السياق الواقعي لها، وليس من منظور اليوم.
- إن الحديث عن الأخطاء لا يجب أن ينحصر فقط في أخطاء الدولة العثمانية ويتجاهل أخطاء التيار القومي الأرمني، فقد كان هناك صراع هويات وقيم ورغبة في تعظيم الفائدة من تغير موازيين القوى، وأدى ذلك إلى الكثير من المآسي.
- الحديث عن الأخطاء التي ارتكبها فريق ما لا يجب أن يتحول إلى تجريم دولة ما بكاملها (الدولة العثمانية .. أو الجمهورية التركية) بجرائم عنصرية أو عرقية ولا يقلل ذلك من بشاعة الكارثة، ولا يجب كذلك أن يتحول إلى اتهام أقلية ما (الأرمن) بمختلف تكويناتها وتفاعلاتها بالخيانة أو العمالة أو غير ذلك مما قد يرتكبه فريق من تلك الأقلية.
- الشتات الأرميني هو الذي يتبنى بقوة موضوع «الإبادة» وهناك ثمة اختلافات ثقافية جذرية بين أرمن الشتات، إلا أن ما يجمعهم ويمنحهم هوية مشتركة، هو علاقتهم بالتهجير العنيف الذي عاناه الشعب الأرميني، ويُعد هذا الأمر إبادة جماعية في الوعي الأرميني الجماعي، كما يرى العديد من المراقبين.
حنين الانفصال:
كان للأرمن دائماً حنين لإقامة الكيان الخاص بهم والدولة المستقلة لهم، وكان من نتيجة ضعف وتفكك الدولة العثمانية أن ظهرت هذه الرغبة بقوة، وساندتها بعض القوى المناوئة والمتصارعة مع الدولة العثمانية في ذلك الوقت، ومنها روسيا القيصرية وفرنسا وإنجلترا أيضاً. كان الأرمن حتى ذلك الوقت، وقبل انطلاق صراعات نهاية القرن التاسع عشر، جزءاً فاعلاً في الدولة العثمانية، وضمن قياداتها السياسية.
ويكفي للدلالة على ذلك أن نشير أنه في الفترة الزمنية نفسها التي يدعي فيها بعضهم الآن أن الإبادة قد حدثت؛ كان وزير خارجية البلاط العثماني من الأرمن وهو جابرايل نورادوكيان أفندي (1912م)، وكان أوهانس قويومجوريان باشا هو النائب العام لوزارة الشؤون الخارجية (1909 - 1913م)، وكان للدولة العثمانية أكثر من 15 سفيراً وقنصلاً من أصول أرمينية يمثلون الدولة في العديد من دول العالم، وشغل ساكيز أوهانس باشا منصب وزير المالية في الفترة من 1897م إلى 1908م إضافة إلى عشرات المناصب الأخرى في الدولة وهو ما يجعل من احتمال وجود نية الاضطهاد العرقي أو الرغبة في الإبادة التامة احتمالاً لا يستقيم مع هذا الواقع العملي.
وكان بعض الأرمن في ذلك الوقت يجاهرون بالعداء للدولة، والرغبة الملحة في إضعافها. ويروى أنه حين تم تولية السلطان عبدالحميد الثاني على عرش الدولة العثمانية كتب السفير الفرنسي إلى وزارة الخارجية الفرنسية أن صور الملك الفرنسي كانت تباع في شوارع اسطنبول من خلال الحمالين الأرمن، الذين كانوا يروجون لفكرة أن فرنسا هي من تدير اسطنبول وليس الخليفة. بدأ الأرمن في داخل تركيا في منطقة الأناضول في المناداة العلنية بتحويل منطقة الأناضول التي تشكل معظم أراضي تركيا المعاصرة إلى دولة أرمينية عبر الانفصال عن الدولة العثمانية في ذلك الوقت. ولتحقيق ذلك بدأ أنصار تلك الفكرة في الانقلاب على الدولة وإشاعة الفوضى، والتخابر مع الدول المعادية للدولة العثمانية، وحمل السلاح كذلك والهجوم على القرى غير الأرمينية في محاولة لفرض واقع جديد في شرق الأناضول يسمح لهم بإقامة دولة أرمينية على أنقاض بقايا الدولة العثمانية. وفي الجهة المقابلة لم يكن يحكم الدولة العثمانية خليفة من خلفاء آل عثمان، وإنما آل الآمر إلى حزب الاتحاد والترقي الذي كان يهتم بفكرة التتريك، ويرى أن الحل الوحيد للحفاظ على ما تبقى من أراضي تركيا هو في سيادة القومية التركية فوق غيرها من القوميات الكردية أو الأرمينية أو الآشورية أو غيرها دون اعتبار للدين أو العرق. لم يكن المستهدف في سياسة التتريك الأرمن فقط، بل كل من كان يخالف أو يختلف مع القومية الطورانية في ذلك الوقت، وهو موقف جديد، وفكر غريب على أبناء الدولة العثمانية من مختلف الأقليات ممن اعتادوا التسامح والتعايش مع المسلمين على مر عقود طويلة. بل يذهب بعض الباحثين ومنهم الدكتور نعيم اليافي في كتابه عن «مجازر الأرمن وموقف الرأي العام العربي منها» إلى القول: إن فكرة التتريك كانت فكرة صهيونية تم تمريرها والزج بها في الفكر التركي في ذلك الوقت عبر شخصيات يهودية ساهمت في وضع أسس هذا الفكر القومي العنصري الذي سيطر على الجمهورية الأتاتوركية عقود من الزمن. يقول الباحث الجامعي الأرميني آرا سركيس آشجيان: «وتتفق مصادر عديدة على أن يهود تركيا ومحافلها الماسونية كانت عاملاً مساعداً كبيراً على ارتكاب حزب الاتحاد والترقي ــ غالبية أعضائه من يهود الدونمة والماسونيين المتنفذين في محفل سالونيكا الماسوني ــ والسلطات التركية لهذه المجازر.
ولذلك ازداد الوضع تأزماً في عهد حكومة الاتحاد والترقي، خاصة بعد دخولها في الحرب العالمية الأولى.. كما قام الجيش الروسي بتشكيل ميليشيات مسلحة من الأرمن لتكون طابوراً خامساً. ثم بدأ الأهالي المسلمون يتسلحون أيضاً للدفاع عن أنفسهم، ويقابلون هجوم الأرمن بهجوم مثله. يقول المؤرخ التركي البرفسور أنور كونوكجو: «يندر وجود قرية في شرقي الأناضول لم تتعرض لمذبحة أرمنية».
مأساة التهجير والإبعاد:
في ذلك الوقت قرر القائمون على حزب الاتحاد والترقي أن الحل الأمثل قد يقتضي تهجير الأرمن من مناطق تركزهم في منطقة شرق الأناضول إلى أطراف الدولة في مناطق متباعدة لتقليل احتمال فصل الأناضول عما تبقى للدولة العثمانية من أراض وسيادة. واتخذ قرار التهجير بسرعة وصاحبته فوضى في التنفيذ، ونتج عن ذلك وفاة أعداد كبيرة من المهاجرين الأرمن إما بسبب قطاع الطرق، أو سوء الأحوال المتعلق بالطقس والجوع والعطش، والمزاج العدائي المتبادل في ذلك الوقت بين جنود الدولة وبين الأرمن، وهو ما تسبب أحياناً أيضاً في تجاوزات فردية تسببت في مقتل العديد من الأبرياء. واللافت للنظر تاريخياً أن مقتل الأبرياء من الأرمن تزايد بشكل واضح في المناطق التي كانت الدولة العثمانية ضعيفة فيها، بينما لم يتعرض الأرمن إلى كوارث شبيهة في المناطق التي تركزت فيها قوى الدولة كما هي الحال مثلاً في منطقة إسطنبول في تلك الفترة. كما أن التهجير لم يكن ضد الأرمن فقط، فقد تم تهجير الكثير من المسلمين الأكراد مثلاً، ويروي حول مآسي ذلك الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله واصفاً عملية تهجير المسلمين: «كانت الثلوج قد تراكمت بارتفاع ثلاثة وأربعة أمتار، وبدأ الأهالي بالاستعداد لترك المدينة والهجرة منها بأمر الحكومة. والعوائل التي كانت تملك ستة أو سبعة من الأطفال كانوا لا يستطيعون سوى أخذ طفل أو طفلين فقط، ويضطرون إلى ترك الأطفال الباقين على الطرق الرئيسة وتحت أقواس الجسور مع قليل من الطعام.. وبين دموع الأطفال وصراخهم وبكاء الأمهات يتم مشهد فراق يفتت أقسى القلوب». واتخذ قرار التهجير في 27 مايو 1915م، وتسبب التهجير الذي اتجه ناحية جنوب الأناضول وسورية ولبنان والعراق - وهي كلها كانت ضمن أراضي الدولة العثمانية - في الكثير من المآسي والأحداث الفظيعة لمن كتب عليهم ذلك، وماتت أعداد كبيرة منهم في الطريق، وظل عدد كبير آخر منهم، وانتهى بهم المطاف في أماكن بعيدة عن العمران أو دول أخرى، ومن ثم لم يتم حصر وصولهم، واعتبروا في عداد الأموات أيضاً، وهو ما رفع من أرقام ضحايا التهجير بشكل مباشر أيضاً. وقرار التهجير داخل أراضي الدولة نفسها كان يستهدف منع الأرمن من إقامة دولة داخل الدولة - كما تؤكد المصادر التركية في معرض دفاعها عن تهمة الإبادة.
كارثة أم إبادة؟
يؤكد الطرف التركي اليوم أن ما حدث لم يكن عملية تطهير عرقية، أو مذبحة، وإنما عملية نقل للأرمن إلى أماكن أخرى ضمن حدود الدولة العثمانية، وذلك بسبب «سعيهم للاستقلال عن الإمبراطورية العثمانية بتحريض من روسيا القيصرية، كما أن الكتائب الفدائية الأرمينية ارتكبت مجازر في حق الفلاحين الأكراد، والأتراك في منطقة (أرضروم) وغيرها، والأرمن لا ينكرون ذلك، وإنما اعتبروا ما فعلوه مقاومة ودفاعاً عن الشعب الأرمني»؛ كما تروي الباحثة صفاء اليوسف. ولذلك كان التهجير في نظر بعضهم ضرورة قومية.هناك العديد من القرائن التي تشير إلى أن الدولة العثمانية حاولت تقليل الخسائر البشرية من مشروع التهجير، واتخذت التدابير إذ قامت باستصدار مرسوم إلى المحافظات جميعها عن طريق إرسال تلغراف يحوى التالي: «احذروا وقوموا بالنقل بطريقة سليمة وصحيحة. أكثروا من عدد الحراس تحسباً لحدوث أي هجوم في الطريق .. احذروا الخسارة». كما تم التوجيه أن يودع الأطفال الأيتام لدى عائلات ترعاهم لمدة معينة وكانوا يمنحون المال أيضاً لعناية أفضل. وتوجد مئات الوثائق التي تبرهن على ذلك.
وجاء في دائرة المعارف الكبيرة للاتحاد السوفييتي (طبعة 1926): «إذا نظرنا للمشكلة الأرمينية من المنظور الخارجي رأينا أنها ليست سوى محاولة القوى الكبرى إضعاف تركيا وذلك بمعاونة ومساعدة القوى الانفصالية فيها لكي تتيسر لها سبل استغلالها وامتصاص خيراتها. هذه القوى الكبرى كانت عبارة عن الدول الأوروبية الكبرى وروسيا القيصرية. ولم تكن الحوادث التي جرت عبارة عن وقوع مذبحة، بل مجرد وقوع قتال بين الطرفين».
وفي عام 1985م نشر 69 مؤرخاً أمريكياً من المختصين بالتاريخ العثماني بياناً ينفي وقوع أي عملية تطهير عرقي للأرمن من قبل الأتراك. لكن الأرمن قاموا بحملة تهديد ضد العلماء وهددوهم بالقتل وقدموا بعضهم للمحاكم، ونجحوا في إرهاب معظم هؤلاء، إلا القليل مثل برنارد لويس وجوستن ماك آرثي وأندرو مانكو. ويمكن تلخيص الموقف العام في هذه اللحظة الراهنة من تلك المأساة في النقاط التالية:
- يسيطر أصحاب التيارات القومية الأرمينية المتعصبة للعرق الأرميني على الحوار والنقاش حول ما حدث في بداية القرن، ويحاولون فرض رؤية أحادية هم فقط أصحابها على العالم.
- في المقابل رفضت الجمهورية الأتاتوركية طوال العقود الماضية - في الفترة التي سبقت وصول حزب العدالة والتنمية - مجرد الحديث عن هذه المأساة، وكان محرماً أن يطرح هذا الموضوع على ساحة النقاش المجتمعي العام؛ لأنه ينافي الفكرة التي قامت عليها جمهورية أتاتورك، في أن تركيا للأتراك، وينافي كذلك الفكر القمعي الذي كانت الحكومات المتعاقبة تمارسه بشكل منظم على الرأي العام بحجة حماية الدولة من الأخطار الخارجية والداخلية والانفصالية.
- حكومة حزب العدالة والتنمية لا تمثل استمراراً لهذا الفكر، بل تقدم نموذجاً متحرراً من تلك التعقيدات، ومن ثم فإنها طرحت من البداية فكرة ضرورة النقاش المجتمعي حول ما حدث في تلك الفترة، مع عدم إقرارها بأي شكل من الأشكال بحدوث إبادة، وإنما كارثة إنسانية مروعة أصابت المسلمين والأرمن في تركيا على حد سواء، وما كان ينبغي لها أن تحدث.
- تحاول تركيا اليوم التأكيد على أن عدم حدوث إبادة عرقية لا يعني أنه لم تحدث مظالم أو انتهاكات أو تجاوزات في حق الأرمن في تركيا في تلك الفترة الزمنية المرتبطة بدولة الاتحاد والترقي، والتي كانت تماثل التيار القومي الأرمني في عنصريتها وتوجهاتها الإقليمية. أي: أن تلك الفترة كانت تشهد صراعات بين أطراف كلها تمثل درجة مرتفعة وغير مقبولة في عالم اليوم من التعصب العرقي. وتغفل الرواية الأرمينية القومية لما حدث في تلك الفترة (بداية القرن العشرين) الكثير من الخلفيات التي تسببت في الكارثة التي حدثت، ولا يعني هذا تبرير أية انتهاكات، ولكنها كانت فترة أصبحت فيها الأقلية الأرمينية في تركيا متحالفة بشكل واضح وفج مع أعداء تركيا سواء كانوا الروس أو اليونانيين أو الغرب، وكانت عناصر تلك الأقلية - دون تعميم - تمارس الجرائم الوحشية تجاه الأكراد وبقية فئات المجتمع التركي. ويعلق على ذلك سياسي تركي في حوار معه قائلاً: «إذا تطرقنا إلى القصص الفردية سنواجه بالفعل قصصاً مؤلمة جداً. إن الروايات التي ترويها إحدى السيدات الأرمن تحوي الألم نفسه والمعاناة ذاتها لحكاية أخرى ترويها مسلمة من القوقاز. ولكن هذه الروايات مختلفة جداً عن الروايات المطروحة سياسياً من قبل الأرمن. الأرمني يقول: لقد مشينا جائعين وعطشى، وهناك قتلت ابنة عمي، ولكنه لا يقول حدثت لنا إبادة جماعية. ولكن المتلاعبين بهذه الروايات يدعون أنها إبادة جماعية. وهذا ما لا أقبله فردياً. يجب النظر أيضاً إلى الروايات الفردية مثل الخطابات. كتب أحدهم: «بينما أنا أترك خربوط تركت أشيائي ومقتنياتي الثمينة أمانة لدى الأخ إسماعيل». فإذا كان هناك كراهية عنصرية بسبب العرق أو الدين هل كان سيترك مقتنياته الثمينة لأحد المسلمين؟ ولماذا يرسل إلى الأخ إسماعيل بعد وصوله إلى حلب قائلاً: «لقد وصلت بالسلامة أرجو أن ترسل أشيائي إلى هذا العنوان»؟ لدينا وثائق حول ذلك. لقد قرأت الرسائل جميعها الصادرة من الأرمن الذين ذهبوا إلى حلب. نعم هناك مأساة إنسانية ولكن ليست إبادة جماعية. هؤلاء الناس لا يكنون الكراهية للجيران والدولة».
إلى أين يتجه الخلاف؟
توجد ثلاث رؤى مختلفة حول الخلاف التركي - الأرميني. الموقف الأول يمثله التوجه الأرميني بوجه عام، ويميل إلى مناصرة مواقف التيارات اليمينية القومية الأرمينية. ويصر التيار الأرميني القومي في الشتات، وفي الدول التي تقيم بها أقليات أرمينية نافذة مرتبطة بالغرب على أن المخرج الوحيد لهذه الأزمة هو أن تعترف تركيا اليوم أن ما حدث كان مشروع «إبادة عرقية» استهدفت الأرمن لدينهم وعرقهم، وأنهم لم يكونوا مقاتلين للدولة العثمانية، ولم يكونوا كذلك أصحاب مشروع انفصالي عنها. ووجهة النظر الأرمينية تصر على أن الدولة العثمانية/ التركية أصدرت قراراً بإبادة الأرمن، وتقدم رقماً لعدد الضحايا يتراوح بين نصف مليون وثلاثة أضعاف هذا العدد، أي: مليون ونصف المليون. أما الرؤية الثانية فتمثلها الأقلية الأرمينية في تركيا، والتي ترى أن الأمر كان فاجعة ومأساة، ولكنه لم يصل إلى حد القول بالإبادة العرقية، وأن ما مضى قد ولى، ولا داعي لإثارة الجراح بفتح الموضوع مرة أخرى للنقاش. وأما الرؤية الثالثة فهي وجهة النظر التركية التي تنفي نفياً قاطعاً وجود أمر حكومي بإبادة الأرمن، وإن لم تنف صدور أمر ترحيل وتهجير للأرمن وغيرهم من الأقليات المسلمة وغير المسلمة من مناطق ذات مغزى إستراتيجي عسكري، وفي الوقت نفسه تتمسك بأن عدد ضحايا عملية التهجير أقل بشكل كبير من الأرقام «الأرمينية».
لماذا يثير الغرب تهمة إبادة الأرمن الآن؟
كان الموقف الغربي بالمجمل طوال العقود الماضية - في الفترة التي كانت فيها تركيا بعيدة عن تراثها وهويتها، وباحثة عن التحالف مع الغرب والكيان الصهيوني، ورافضة للارتباط بالمجتمع المسلم الدولي - يميل إلى وصف ما حدث للأرمن في نهاية الدولة العثمانية أنه كارثة، ويرفض فكرة أن توصف تلك الأحداث بأنها كانت إبادة عرقية أو ما شابه. وتبنت الجمعيات الصهيونية، والكيان الصهيوني، الفكرة نفسها الرافضة لفكرة الإبادة. ويؤكد ذلك الكاتب البريطاني الأصل والصهيوني المزاج «برنارد لويس»، في عدد من الدراسات والكتب حول تلك الكارثة، وهو الذي لا يعرف بتعاطفه مع العالم المسلم بأي شكل من الأشكال.
ورغم أن الأمم المتحدة أعلنت أنها لا تعتبر ما حدث في تركيا في بداية القرن «إبادة عرقية»، وهو الموقف الدولي الرسمي من تلك الأحداث حتى الآن وعلى مدى تسعة عقود كاملة؛ إلا أن أوروبا والكيان الصهيوني وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية قد بدؤوا في تغيير مواقفهم في الآونة الأخيرة بناء على حسابات إستراتيجية جديدة. أوروبا تريد عرقلة دخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، ولذلك أصدر الاتحاد الأوروبي بياناً عام 1987م ينص على أن الأحداث التي جرت للأرمن عام 1915م ـ 1917م كانت عملية إبادة جماعية، وفقاً لمعايير الأمم المتحدة عام 1948م، وربط انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي باعترافها بالمذابح الجماعية للأرمن، ولكن بدون تبعات سياسية، أو قانونية أو مادية. ومع الوقت بدأت فرنسا الرافضة لدخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي في استخدام ورقة الضغط نفسها، ولذا كان برلمانها هو أول برلمان نادى باعتبار ما حدث في تركيا مع الأرمن «إبادة عرقية». فقد أرادت الجمعية الوطنية الفرنسية عام 2006م تقديم مشروع قرار يطالب بمعاقبة كل من ينكر إبادة الأرمن على أيدي العثمانيين في 1915م.
أما الكيان الصهيوني فقد كان يرى أهمية المصالح الإستراتيجية مع تركيا طوال العقود الماضية، حتى تولى حزب العدالة والتنمية سدة الحكم في تركيا حيث تغيرت العلاقة وتبعها تغير الموقف الصهيوني من ملف الأرمن. وفي الأعوام الأخيرة بدأ الكيان الصهيوني يستشعر الخطر من ميول حزب العدالة والتنمية إلى دعم القضية الفلسطينية، والابتعاد التدريجي لتركيا عن التحالف مع ذلك الكيان، وظهر على الفور من ينادي داخل ذلك الكيان بفتح ملف «الإبادة» ضد تركيا اليوم! ثم تسبب نهوض تركيا من كبواتها الاقتصادية وعودتها التدريجية إلى التعاطف مع قضايا العالم المسلم، واستعادة هويتها الإسلامية؛ في قلق الدوائر الأمريكية من هذه النهضة، وهو ما يعني السعي نحو تحجيم التطور التركي، وهو ما استدعى بشكل مباشر البحث في ملفات الماضي عما يمكن أن يحجم تلك النهضة. وفي عام 2007م تبنى الكونغرس الأمريكي قراراً حول الإبادة، ولكن الرئيس السابق جورج دبليو بوش أجّل التوقيع عليه إلى أن غادر البيت الأبيض حرصاً على عدم دفع العلاقات الإستراتيجية بين بلاده وتركيا إلى مزيد من التوتر والسوء. ومؤخراً أقرت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأمريكي قراراً يؤكد «الإبادة» بغالبية صوت واحد فقط. وقد أقرت اللجنة الأمريكية مشروع قرار الاتهام بأغلبية 23 صوتاً مقابل 22، جاء فيه «أن الجمهورية التركية الحديثة قامت على أنقاض الدولة العثمانية التي عملت خلال السنوات (1915-1923م) على تهجير الأرمن من قراهم ومدنهم التي كانوا يسكنون فيها في شمال الأناضول وجنوبه، بتهمة (التحالف مع روسيا)، وأن هذه الممارسات التركية (توجت بإبادة جماعية) بحق الأرمن».
لقد تفهم اللوبي الأرميني التغير في المزاج الأوروبي والأمريكي الهادف إلى تحجيم انطلاقة تركيا، ونجح إلى حد كبير في المناداة بفكرته في دول الغرب كلها، وبعض دول أمريكا الجنوبية واللاتينية التي تتركز فيها الجاليات الأرمينية من أصول لبنانية وسورية وتركية أيضاً. وقد قامت الدول التالية - وعددها 19 دولة - بتمرير قرارات عبر برلماناتها في الآونة الأخيرة تشير إلى أن ما حدث بين الدولة العثمانية وبين الأرمن في بداية القرن الماضي كان بشكل ما يعد «إبادة عرقية» وهذه الدول هي: الأرجنتين وبلجيكا وفرنسا وهولندا وسويسرا وإيطاليا وكندا ولبنان وروسيا وسلوفاكيا وأوروجواي واليونان وقبرص اليونانية وبولندا وألمانيا وليثوانيا وشيلي وفنزويلا. وهناك مشروعات قرارات في برلمانات الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وبريطانيا وأستراليا. واستعراض تلك الدول يؤكد التوافق غير المعلن بين الغرب وبين اللوبي الأرمني الذي يعمل جاهداً على استمالة أوروبا الغربية بالعموم ضد تركيا، وكذلك يحاول الاستفادة من الضغط على دول أمريكا الجنوبية لوجود جاليات أرمينية مؤثرة بها لتشكيل نوع من الضغط الدولي باتجاه تبني الموقف الأرميني من القضية.
تأثير هذه الأزمة على تركيا:
لا تقبل تركيا الإسلامية أو العلمانية الاعتراف بفكرة «إبادة» الأرمن أو الاعتذار عنها لأن ذلك لا يعني إحراجاً للمؤسسة العسكرية والنظام الأتاتوركي فحسب، كما يرى الباحث مصعب الهلالي، بل يعني أكثر ما يعني «حصول أرمينيا على الكثير من التعويضات المالية الباهظة وربما الجرأة على المطالبة بتنازلات تركية لا حصر لها؛ منها على سبيل المثال: توفير ممرات ومعابر دائمة عبر أراضيها معفاة من الرسوم للصادرات والواردات الأرمينية.. وكذلك غض تركيا الطرف عما يجري من خلاف بين أرمينيا وأذربيجان على أقليم «ناجورنو كاراباخ».. ولا شك أن اليهود سيطلون برأسهم ويحشرون أنوفهم حيثما تواترت إلى أسماعهم كلمة (تعويضات) .. فهناك بضعة آلاف من اليهود الأرمن ستدعي إسرائيل في التوقيت المناسب أن بعض أسلافهم كانوا ضحايا مذبحة الأرمن المختلف عليها عام 1915م». ويطالب الأرمن أولاً بألا يناقش أحد في سرديتهم التاريخية لما حدث، وهذا نوع من احتكار الحقيقة لا تملك تركيا القبول به، أو الرضوخ له مهما كانت المبررات؛ لأنه يعني ابتزاز دولي بلا نهاية، وما حدث لألمانيا في هذا الشأن خير دليل على ذلك، وبالمقابل فإن معظم دول العالم لا تقر بحدوث تلك الإبادة في تركيا بعد أكثر من تسعة عقود من تلك الأحداث، وصدور مئات الكتب التي تشرح ملابساتها. والقبول التركي بمبدأ التسليم بالرؤية الأرمينية لتلك الأحداث يعد انتحاراً قومياً لا يمكن تخيل قبوله لأي حكومة تركية. أما المطلب الثاني بالاعتراف والاعتذار عن المذابح بعد أن توصف بأنها «إبادة عرقية» فهو أيضاً مطلب لا يمكن للأتراك قبوله دون نقاش. الراجح أن حكومة حزب العدالة والتنمية لا تمانع من الاعتذار عن الكارثة، وليس عن الإبادة، وأن يكون ذلك في سياق بحث التجاوزات التي حدثت من الأرمن ومن الدولة العثمانية معاً، وليس فقط التركيز على جانب واحد. وأما المطلب الثالث للأرمن والذي يتركز على فكرة التعويضات بشقيها المالي، وكذلك استعادة أراض من الدولة التركية لكي تضم إلى أرمينيا، فهو مطلب ليس من المعقول أن تستجيب له الحكومات التركية. وفكرة التعويضات المالية والجغرافيا ستكون فكرة شائكة، ومن ثم فإن هذه الورقة ستستخدم لابتزاز لتركيا مع معرفة الأطراف جميعها بصعوبة تنفيذها إلا في حال انهيار النهوض الحضاري التركي الحالي، وهو ما تراهن بعض القوى على إمكانية حدوثه عند استخدام الضغط المستمر بورقة إبادة الأرمن. كما أنه من الواضح أن هذه الأزمة سيتم تصعيدها من قبل الفريق المعارض لدخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي؛ من أجل إضعاف الملف التركي، أو إجبار تركيا على تقديم تنازلات متعددة تضعف من قوتها الحضارية في حال دخول الاتحاد، وإرباكها بمجموعة قيود أخلاقية «عقدة ذنب» تمنعها من طرح الأفكار والرؤى المسلمة بحرية، وكذلك تقييدها اقتصادياً بحزمة من المطالب تجاه الأرمن تحجم من النمو الاقتصادي الحر. وأخيراً فإن توريط تركيا في ملف الاعتذار للأرمن عن إبادة لم تحدث - كما يرى الأتراك - سوف يضعف من القيمة الاستراتيجية لتركيا على الساحة الفكرية والسياسية، ويحولها إلى كيان هزيل استراتيجياً يعاني إشكاليات الماضي التي يمكن إشعالها بشكل مستمر في الحاضر لوأد أي نهضة مستقبلية للمجتمع التركي. ويمكن لهذه الأزمة أيضاً أن تتسبب في إحراج تركيا في الملفات الإقليمية، وتحجيم قدراتها في لعب دور فاعل في القضايا الإسلامية تحت مبرر «جرائم تركيا العنصرية»، وهو هدف يمكن أن يهتم به بشكل كبير الكيان الصهيوني الذي أصبح أكثر تخوفاً من أي وقت مضى من الدور التركي في القضية الفلسطينية من ناحية، وفي دعم الموقف الإيراني من البرنامج النووي أيضاً.
وأخيراً: فإن الولايات المتحدة تبحث عن ورقة ضغط قوية ضد تركيا تمكنها من الحفاظ على مكاسبها الاستراتيجية في تركيا، وقد تكون تهمة «الإبادة العرقية» هي تلك الورقة التي يمكن لأمريكا استخدامها باستمرار في وجه أي سياسات تركية تضر بالمصالح الاستراتيجية الأمريكية. ويستتبع هذا ألا تقوم أمريكا بشكل عاجل بإقرار «الإبادة العرقية»، وإنما تلوح بها بين الحين والآخر، وهو بالضبط ما تفعله الإدارة الأمريكية الحالية والسابقة أيضاً. ويمكن القول بالمجمل: إن هذه الأزمة مرشحة للتفاعل المستمر خلال الأعوام المقبلة، وإن من مصلحة تركيا أن تدرك حدود الاعتذار الممكن عما حدث في بداية القرن الماضي تجاه الأرمن، وأن تصر على موقفها من أن تكون الرؤية الأرمينية قابلة للنقد، والرؤية التركية قابلة للبحث، والنتيجة التاريخية تحدد بالضبط ما حدث، وتوصيفه، وتبعات ذلك التوصيف على أجيال المستقبل في تركيا ومحيطها الإقليمي والدولي، وعلاقتها بالأرمن وأرمينيا ودول الجوار.
الموقف العربي والمسلم من القضية:
إن المصالح العربية والإسلامية الإستراتيجية المرتبطة بتركيا متنوعة وتشمل العديد من الجوانب من بينها: الاشتراك في الدين الإسلامي، والعلاقات الجغرافية والجيوسياسية المرتبطة بالمياه والموارد الطبيعية، وكذلك النمو المستمر في حجم المبادلات التجارية والعلاقات الاقتصادية، والرغبة المجتمعية العامة في العالم العربي والمسلم في دعم توجهات حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم المتعاطفة مع الشرق المسلم، والراغبة في لعب دور أكثر فعالية في دعم قضايا العالم العربي والمسلم، وأخيراً الرغبة في تحجيم العلاقات التركية الإسرائيلية وحرمان إسرائيل من قطف أية ثمار عسكرية أو غيرها لقاء هذه العلاقة التي شهدت فيما مضى تقارباً ملحوظاً، في الأوقات التي ابتعدت فيها تركيا عن هويتها الجغرافية والدينية والفكرية. ولكي يمكن فهم هذا التوازن في التعامل مع مشكلة مؤهلة للتصاعد والاستمرار على الساحة الدولية في الأعوام القادمة؛ يمكن التوصية بعدد من الخطوات العملية في هذا الشأن، من أهمها:
- الحاجة إلى المزيد من الدراسة التاريخية المحايدة لما حدث في بداية القرن الماضي ضد الأقليات في تركيا، وهل كان ذلك يمثل «إبادة عرقية أم لا»، وأن تتكون رؤية عربية إسلامية واضحة لما حدث بعيداً عن التأثر بأي من أطراف الخلاف بالشكل الذي يطعن في المصداقية أو الموضوعية في تناول تلك الأحداث.
- من المهم مواجهة مشروع تركيع تركيا أو إذلالها بسبب هذا الخلاف الذي لم يحسم بعد، ويجب على الدول العربية والمسلمة أن تكون واضحة في رفضها أن تتبنى برلمانات غربية إدانة تركيا دون مبررات حقيقية، ودون إتاحة الفرصة لتركيا لعرض وجهة نظرها.
- نوصي بتشكيل لجنة مسلمة محايدة لبحث الوثائق التاريخية المرتبطة بتلك المرحلة، وتقديم رؤية عربية إسلامية متكاملة عما حدث في تلك الفترة يمكن أن تساهم في توضيح تلك الأحداث، ومن ثم الدفاع عن الظلم الذي يمكن أن يرتكب في حق أي من الطرفين التركي أو الأرمني من جراء اعتماد الادعاءات التاريخية دون بحث وتمحيص. كما أن وجود موقف عربي وإسلامي موحد من هذه القضية سيساهم في تشكيل موقف دولي عادل من ناحية، وتحجيم فرص خصوم تركيا في استخدام هذه الورقة لتركيع دولة مسلمة وإذلالها وابتزازها.
- حساسية الأوضاع في شمال العراق وسورية وإيران من ناحية، وجنوب الأناضول وشرقه من ناحية أخرى؛ تؤكد أن تلك المنطقة ستشهد تغيرات عدة في المرحلة القادمة مرتبطة بالقضية الكردية من ناحية، وقضايا الأمن المائي من ناحية ثانية، والتوسع في التبادلات التجارية من ناحية ثالثة، ومن ثم فإن إغلاق مثل هذه الملفات الشائكة سيساعد في نمو التواصل التجاري والاقتصادي بشكل طبيعي وبعيداً عن الأزمات التي يراد إثارتها حول تلك المنطقة ليس فقط من المنظور التاريخي، وإنما من زاوية المطالبات المستقبلية أيضاً.
- إن توحيد الصف العربي والمسلم يساهم بلا شك في تخفيض حجم واحتماليات تجاوز خصوم الأمة لحقوق المجتمعات العربية والمسلمة، والاهتمام بعودة تركيا إلى الصف المسلم يجب أن يكون إحدى أهم استراتيجيات المرحلة القادمة التي تشهد عودة التكتلات إلى عالم يتكون اليوم من أقطاب متعددة يمكن أن يكون للقطب المسلم فيها دور فاعل. إن ملف إبادة الأرمن، واتهام تركيا به يستخدم لتفتيت هذا التحالف العربي المسلم، وإشغال تركيا في قضايا تاريخية عنصرية قومية تحيي التوجهات الأتاتوركية في البلاد بشكل يمكن أن يعوق نهضتها وعودتها إلى هويتها المسلمة.
يسعى بعض الغربيين من خلال إثارة موضوع إبادة الأرمن إلى اتهام الخلافة المسلمة بجرائم الإبادة العنصرية من أجل إسقاط الادعاء المسلم أن الحضارة المسلمة لا ترتكب تلك الأفعال، وهم ما يجعل الغرب والصهاينة والمسلمين في كفة واحدة في ذلك، ويقضي على ميزة حديث المسلمين الدائم عن التسامح والتعايش الفعلي مع الآخر. عقدة الذنب الأوروبية من إبادة اليهود، وعقدة الذنب اليهودية من ممارسات الكيان الصهيوني ضد الفلسطينيين تجتمعان حول أهمية إحداث عقدة ذنب مساوية لدى المسلمين، ويمكن لتصعيد ملف كارثة الأرمن أن يساهم في صنع هذه العقدة التي يمكن أن تمنع المسلمين من الحديث عن تميز حضارتهم بعدم ارتكاب أي جرائم إبادة عرقية في حق أي من الشعوب على مر التاريخ.
يشعر منافسو تركيا أن التعاطف الشعبي الإقليمي مع قيادات حزب العدالة والتنمية، مع النهوض الحضاري والاقتصادي التركي في العقد الحالي يمكن أن يقدم نموذجاً بديلاً عن الحضارة الغربية.. نموذجاً يرتبط بالإسلام وينطلق من التآلف معه، ويقدم إمكانية النجاح الاقتصادي والاجتماعي عبر الإسلام وليس عبر التخلي عنه. ويرى بعض منافسي الإسلام ضرورة تشويه هذا النموذج حتى ولو كان الطريق إلى ذلك تسويق تهمة لم تثبت من قبل، ومحاولة إلصاقها بالكيان الصاعد على الساحة الإقليمية والدولية.
من المهم في العالم العربي والمسلم إدراك أن التنافس الحضاري مع الغرب قد يكون أحد محركات ومبررات الغرب لإلصاق تهمة الإبادة العرقية ضد تركيا.