بعد أن نجحت شعوب عربية بالإطاحة بنظم فاسدة، جرَّعتها الظلم والفقر، وأذاقتها الخوف والكبت، لعقود مضت، ارتفع منسوب الثقة في نفوس العرب، شعوبًا، ونُخَبًا مثقفة، وبدأت الأسئلة تدور، حول دور الدول الكبرى، وعلى رأسها أمريكا من هذه التطورات؛ ففيما عزاها البعض إلى دعم أمريكي مبطن، حينًا، ومعلن، في مراحل أخرى، رآها البعض الآخر امتيازًا عربيًّا، وعلامةً على نضج الشعوب العربية، واستعادتها القرار.
وقبل تغليب أحد الرأيين، ثمّة تساؤلات أوُّلها عن العلاقة بين الثورات العربية والمخططات الأمريكية التي أرادت تعميم الفوضى الخلاّقة، أو البنَّاءة. ذلك المفهوم الذي طفا على السطح، حين دعت إليها وزيرة الخارجية كونداليزا رايس في عهد الرئيس الأمريكي بوش الابن.
ثم سؤال عن المصلحة الأمريكية في دعم تحركات أفضت إلى الإطاحة بحكام موالين لها وللغرب، كما في مصر، وتونس، وتحديدًا مبارك الذي كان نظامه الأقرب إلى «إسرائيل»، والأهم في رعاية «العملية السلمية»، وما يُسمّى بالاستقرار في الشرق الأوسط؟
«التغيير الأمريكي»
جاء في دراسة صدرت عن معهد بروكينغز في سنة أواسط 2006م بمناسبة مرور خمس سنوات على أحداث 11 سبتمبر أنه (بعد خمس سنوات من الجدل نشأ توافق عام حول عدد من القضايا، تعلّق بعضها بالأولويات الإستراتيجية، وتعلّق بعضها بمشكلات أساسية.
القضية الأولى التي تحقق بشأنها توافق هي أننا إزاء نمط جديد من التهديدات يختلف عن التهديدات والتحديات العالمية التقليدية، وهو ما يعني الحاجة إلى منظور جديد في التعامل مع هذا التحدي، يعيد النظر في قيمة الاستقرار، كقيمة عليا في السياسة الخارجية الأمريكية، تجاه العالم الإسلامي، فستون عامًا من التركيز على قيمة الاستقرار، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، لم تؤدِّ في النهاية إلاّ إلى الجمود الذي أدّى في الحقيقة إلى حالة من عدم الاستقرار. ومن ثم، تحوّلت السياسة الخارجية الأمريكية إلى قيمة "التغيير" كوسيلة لتحقيق الاستقرار الديناميكي. وتأتي في هذا السياق "مبادرة الشرق الأوسط الموسع" وغزو العراق، ومفهوم "الفوضى البناءة". ولم يصبح السؤال الآن حول الحاجة إلى التغيير من عدمه، ولكن كيف تكون الولايات المتحدة قوة التغيير في المنطقة).
فالتغيير الديموقراطي في العالم العربي أمرٌ في إستراتيجية الولايات المتحدة، أو ضمن خياراتها الإستراتيجية، فلو لم تكن هي من بادرت إلى هذه التغيرات؛ فإنها - ولا ريب- لا تعاديها، ما دامت تقبل الاحتواء، والاستخدام؛ لتصبّ في رؤيتها العامة للمنطقة. ونستذكر هنا تصريح هيلاري كلينتون عن عاصفة من التغيير تجتاح المنطقة العربية لا تستثني أحدًا..
وبعد أن أثبتت خمس سنوات في مواجهة ما تسميه أمريكا الإرهاب أن القوة العسكرية غير كافية، فقد تمَّ الالتفات إلى منهج متعدّد الأبعاد يقوم على توفير بيئة مناهضة لـ (الإرهاب)، بالاعتراف بالأبعاد الفكرية والثقافية في المواجهة، وكذلك بحل مشكلة الحرمان الاقتصادي والاجتماعي والكبت والقمع السياسي.
وأما تخوُّفها من الحركات الإسلامية فيبدو أنها قد أجرت عليه بعض التعديلات؛ فصارت تميز بين حركات (معتدلة) وأخرى(راديكالية) أو (إرهابية)؛ إذ تقبل باندماج حركات إسلامية في السلطة، شريطة عدم استعمال العنف، والالتزام بخطوط دولية، وإقليمية معينة لا تتعدّى السقف الأمريكي، ولا تخرِّب ترتيباتها، أو تهدّد رؤيتها في المنطقة.
أما الحكام الموالون؛ فلا أسف عليهم، إذا تجاوزتهم الأحداث، وتجاوزهم وعي الجماهير، ولم يستطيعوا التكيَّف مع المتطلبات الحقيقية للشعوب العربية.
وتأمل الولايات المتحدة من خلال هذه التغيرات والثورات أن تستعيد قدرًا من الثقة والصدقية، وتحسِّن صورتها في العالم العربي، وهي تبدو مناصرة للشعوب في انتزاع حقوقها، وبناء مجتمعات ديموقراطية مدنية. وقد حققت بعض ذلك، من خلال الثورة المصرية، والليبية، وإن كان ذلك لم يكن بالعمق، أو الاتساع المرجوّ، ولكن تلطيفًا على صورتها قد تحقق لدى قسم من عامة الناس على الأقل.
وثمة سؤال عن مصر تحديدًا، عن علاقة الجيش بأمريكا، وهو الذي اضطلع بدور مهم في الإمساك بالبلد، والإشراف على الدولة، وعلى التعديلات الدستورية، ولا يزال يقبض على مقاليد الدولة والحكم، ولا يزال صمّام الأمان؟ ما علاقته بأمريكا؟
في الجواب على هذا السؤال نستذكر زيارة رئيس الأركان سامي عنان إلى واشنطن عشية الثورة، وأنه قطعها، وعاد. ونستذكر موقف الجيش المحايد، ثم الحامي للثوّار؛ ليكون قادرًا على لعب دور في المرحلة التالية، وقد كان. ونتذكر المعلومات والتصريحات الأمريكية التي تؤكد رضاها عن هذا القائد العسكري، عنان، وثقتها به، بما يفوق حتى وزير الدفاع طنطاوي الذي يُصنَّف أمريكيًّا أنه شخصية محافظة، وأنه لم يكن، يتقبل، أو يقدر على الإسهام في الإصلاح والتغيير. ثم نتذكر زيارة وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون الأخيرة إلى مصر وتونس... ما يؤكد قوة العلاقات وبقاء الثقة بالدولة المصرية، تحت رعاية الجيش.
وماذا عن دور الشعوب؟
- في المسألة صعيد آخر، وهو حقيقة أن الشعوب العربية نهضت من رقادها، ودبّت فيها الحياة، بعد موات، أو شبهه، وأنها الآن أكثر وعيًا ويقظة، حتى إن قيادات شبابية مصرية ضمّت إلى وعيها الداخلي بحقوقها وعيًا على الدور الأمريكي، وكانت أكثر حذرًا، وتشكُّكًا به.
- وفي موطن آخر من مواطن الثورات العربية، وهي ليبيا أبلى الشعب الليبي بلاءً حسنًا في النضال، وكانوا يريدونه سلميًّا، غير أن القذافي استدرجهم، أو اضطرهم، إلى المواجهة العسكرية، غير المتكافئة؛ ليسوِّغ لنفسه، ولقواته البطش، دون رحمة، ولكي يخادع العالم أنه إنما يقاوم تمرُّدًا عسكريًّا، ومن حقّه فرض سيادة (الدولة)!
وفي ليبيا هذه رفض الثوار التدخل الأجنبي، ورفض «المجلس الوطني» ذلك، ولكن إفراط القذافي في قتل المدنيين، وشعبه المطالب بالحرية، والتخلص من ظلمه و(جنونه) لم يترك لهم بُدًّا من القبول بالحظر الجوي الذي فرضته الدول الغربية، وأمريكا.
وفي هذه الساحة من ساحات التغيير برز، على نحو أكثر جلاء، وللأسف الدور الغربي، والأمريكي الذي لا يزال فاعلاً. وهذه الدول لم تخفَّ إلى التدخل إلاّ بعد أن أمعن القذافي قتلاً، واستطاع أن يوسّع هجومه، حتى كان على مشارف بنغازي؛ ليكون الغرب، وأمريكا في موقف أفضل للابتزاز من المعارضة الليبية، وكان وليام بيرنز وكيل وزيرة الخارجية الأمريكية صرح، مع بداية التحرك السياسي والدبلوماسي الأمريكي، بعد لقائه بأعضاء في المجلس الوطني الليبي بـ «أن الولايات المتحدة ليس لديها صورة كاملة عن المجلس الوطني الليبي، لكن الذين قابلناهم تركوا لدينا انطباعًا بأنهم إيجابيون وجادّون».
الخلاصة:
- إننا بالقدر الذي نثمّن فيه عاليًا هذه الروح العربية المتنامية نحو الحرية والكرامة واسترداد القرار، وبناء الأوطان، بكل نزاهة ومسؤولية وأمل؛ فإننا نحذر من الاستخفاف بالتدخلات الأمريكية، أو التهوين، أو حسن الظن بالنوايا الأمريكية، والغربية عمومًا، وكم كان مبهجًا موقف قيادات شبابية وحركات سياسية في مصر، حين لم ترحب بوزيرة الخارجية الأمريكية، لدى زيارتها لميدان التحرير بالقاهرة!! وكانوا على درجة كافية من الوعي ويقظة الذاكرة لعهد قريب كانت فيه أمريكا الداعمة الكبرى للنظام المخلوع، ضد الشعب المصري المقهور، والمهمَّش، لصالح مصالحها، وما تزعمه استقرارًا.
- والمعنى أن الشعوب القادرة على الثورة، في وجه أنظمة قمعية بوليسية أمنية من الدرجة الأولى، والتي استرخصت التضحيات الغالية في سبيل حريتها، جديرة بأن تصرّ على حماية ثورتها، من الاستلاب الخارجي، ولو كان بطريقة غير مباشرة، بأن تقيم علاقات ندية ومتكافئة مع تلك الدول الطامعة، وهي قادرة على ذلك، لو صحّ العزم، وامتلكت الجرأة، والقرار، وليس معنى هذا أن تدخل في مواجهة مع تلك الدول، ولكنه الحق الطبيعي في السيادة الكاملة على البلاد والمقدرات والسياسات الداخلية والخارجية.
|