فيلم 'ظل الغياب' للمخرج نصري حجاج: معاناة الموتى الفلسطينيون مع موتهم!
كتبهامحمد منصور ، 8 أغسطس 2008 الساعة: 14:11 م
بقلم: محمد منصور
‘ظل الغياب’ عنوان يحمل في طياته صبغة أدبية موحية، قد يصلح لقصة أو رواية أو حتى قصيدة شعر… لكن عندما يحمل اسم فيلم وثائقي يوقعه المخرج الفلسطيني نصري حجاج، فلا بد أن يأتي مشحوناً بتراجيديا الشتات الفلسطيني، والعذابات الفلسطينية التاريخية، التي تتخذ أشكالا عديدة لتلك الحياة الموزعة بين المنافي وبلدان اللجوء، وبين أرض الوطن المسورة بالحرمان من حق العودة… اللافت والمثير فيفيلم نصري حجاج ‘ظل الغياب’ الذي شارك في مهرجانات عدة هذا العام، أنه أراد أن يلقي نظرة على معاناة الفلسطيني مع الموت وليس مع الحياة فقط… على معاناة البحث عن قبر، وعن ملاذ أخير، وعن حفنة من تراب الوطن! فالفيلم أراد أن يقارب رثاثة وقسوة الحياة، من خلال متابعة مصائر الموتى، ومعاناتهم مع موتهم، ومع استصدار تراخيص وموافقات دفن، تبدو عسيرة حيناً، وغير خاضعة للمعيار الإنساني أحيانا أخرى… وذلك عبر تتبع لحظات موت شخصيات شهيرة، مختلفة المواقع، متنوعة المنافي، لكنها متوحدة الهوية والمصير… فحيث تكون الهوية (فلسطيني) يختلط المأساوي بالساخر… وألم الفقدان بألم الحرمان من العودة إلى الوطن… ولو في كفن!
سيرة ذاتية للموت
ينطلق نصري حجاج من قرية (الناعمة) فيفلسطين التي غادرها أهلها في نكبة عام 1948، يعود إليها في رحلة يكتشف فيها وطنه، ويكتشف طعم ونكهة ولون فلسطين… يقول عن نفسه إنه (خليط عجيب من الذكريات والأفكار والحنين والشقاء الذي ينبت في مخيمات اللجوء) ورغم أن قريةالناعمة هي موطن الأهل والعائلة، والذكرى الحارقة التي ظلت تتردد على ألسنتهم واحداً إثر آخر وهم يحلمون بالعودة إليها، فإن نصري حجاج، لم يعرف (الناعمة) إلا وهو مترع بألم المنافي… فقد ولد في مخيم (عين الحلوة) في صيدا اللبنانية… ثم عرف منفى آخر بعد هذا المنفى، حيث خرج إلى تونس بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت! يتقصى نصري حجاج في هذا الفيلم السيرة الذاتية للموت الفلسطيني، يتتبع في بحث واستقصاء دائبين قصص الكثير من المناضلين والكتاب والشعراء والقياديين والزعماء الفلسطينيين، الذين كان هاجس القبر يكتب لهم مأساة أخرى، ومنفى آخر… المناضل أنور شحادة الذي تزوج من فيتنامية، وعندما مات كان أقصى ما ناله أن يدفن في مقبرة للمناضلين الفيتناميين ضد الأمريكان… لتعذر عودته إلى تراب وطنه… رسام الكاريكاتير ناجي العلي، الذي اغتيل في لندن عام 1988 وتعذر دفنه حتى في مخيم عين الحلوة، المنفى الأول، بسبب الأوضاع الأمنية حينذاك فقررت عائلته دفنه في لندن… القيادي البارز خليل الوزير، الذي اغتاله الموساد في تونس، ودفن في مقبرة الشهداء في مخيم فلسطين، الشاعر معين بسيسو الذي دفن في القاهرة… وأخيراً وليس آخراً الرئيس ياسر عرفات، الذي رفضت إسرائيل رفضاً قاطعاً، دفنه في القدس حسب وصيته، فتم دفنه في حديقة المقاطعة في رام الله، ووضع في صندوق محكم من الإسمنت ليسهل نقله ودفنه مرة اخرى… كما تم إحضار تراب من داخل الحرم القدسي الشريف ونثره في قبره… هذا في الوقت الذي قامت إسرائيل بنقل رفاة أولاد هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية، من فرنسا كي يدفنوا فيفلسطين، وسمحت للشاعر راشد حسين الذي توفيفي الولايات المتحدة بالعودة للدفن فيفلسطين، فقط لأنه دخل أمريكا بجواز سفر فلسطيني، واستطاع محاموه أن يستصدروا له قراراً بالعودة كي يدفن هنا!
نفسية اسرائيل المريضة
ويركز نصري حجاج على الحالة النفسية الصهيونية المريضة التي تمارس إزدواجيتها على أكثر من صعيد… تمنح لليهود حق الدفن فيفلسطين، حتى لو لم يكونوا من سكان الكيان الإسرائيلي، وتحجب هذا الحق على الفلسطينين الذين ولدوا وعاشوا هنا… أكثر من ذلك، تحتفظ برفات المناضلين والشهداء الذين سقطوا في مواجهات معها، وتدفنهم في مدافن خاصة بمن تسميهم (المخربين) ربما لتتذكر إنجازاتها في زيادة عدد الضحايا! صور وحكايات كثيرة يتابعها نصري حجاج بالحاح وجداني عل الامكنة وعل المسافات وعل تكثيف رقعة الشتات… صور عن الموت الفردي وعن موتى المجازر… فجامع مخيم شاتيلا، تحول إلى مقبرة جماعية في حرب المخيمات… وضحايا مجزرة تل الزعتر، أخذ أهاليهم اذونا من قتلتهم كي يسمحوا لهم بإحضار جرافتين لحفر قبر جماعي لأولادهم وذويهم… إنه ظل الغياب الفلسطيني الذي يذهب بعيداً في أقاصي الأرض… يتوزع على المنافي… ويسكن القارات… ويهاجر إلى آخر نقطة في رحلة الاغتراب والشتات… فلو أراد الفلسطينيون أن يلملموا رفات شهدائهم… كم وطن سيحتاجون كي يعبروا إلى الوطن… وكم مناف سيعبرون كي يقتربوا من القبر الذي يشتهون؟!
تراجيديا شعرية وجماليات أخاذة
يقدم نصري حجاج كل هذا الكم من الرصد المعلوماتي الموثق والحافل بكم كبير من التنقلات والمسارات عبر سرد حميمي، يكتبه بلغة أدبية راقية، معبرة بلا إنشاء، عميقة الأثر بلا افتعال أو تهويل… ويعلق على الفيلم بصوته ذي النبرة الدافئة المتأرجحة بين الذاتي والموضوعي فيذهب المشاهد معه في سوية أدبية تكاد تصنع عالما موازيا لعالم الصورة الأنيقة التي ينساب حزنها عبر مكونات بصرية وجمالية أخاذة. يستعين نصري حجاج بأشعار محمود درويش كي يستكمل هذه التراجيديا الشعرية التي يصوغها نصا وتعليقا وصورة… وتحضر هنا قصيدة ‘لا تعتذر عما فعلت’ لتضيف للفيلم شحنة تعبيرية متسقة تماما مع سياق الفيلم وأدواته:
لا ينظرون وراءهم ليودعوا منفى
فإن أمامهم منفى
لقد ألفوا الطريق الدائري
فلا أمام ولا وراء
ولا شمال ولا جنوب
يهاجرون من السياج الى الحديقة
يتركون وصية
كل متر من فناء البيت
‘لا تتذكروا من بعدنا الا الحياة
إن فيلم ‘ظل الغياب’ بفكرته الجديدة غير المسبوقة التي تنفذ إلى اشواق الحياة من خلال معاناة الموت… وبرؤيته الفكرية والانسانية المرهفة وسويته الفنية الراقية وتكامل عناصره يشكل اضافة هامة لمكتبة الافلام الوثائقية الفلسطينية ولروائع هذه الأفلام على مر سنوات طوال.
جريدة (القدس العربي) 8/8/2008
الفلسطينيّ كان وما زال دومًا مشروع شهيد لا يواجه المشكلة في استشهاده، فهو قدر مرسوم، لكنّ السّؤال الّذي ألحّ على روحي وأنا أحضر العرض الأول لهذا الفيلم في مسرح وسينماتيك القصبة في رام الله العاصمة المؤقّتة لدولة الحلم فلسطين، هو: لو استشهدت برصاصة احتلاليّة أو رصاصة شقيقة أو رصاصة منفلتة، أين سأدفن؟ وهل سأجد مكانًا أدفن فيه بكرامة؟
هذه هي قصّة ظلّ الغيابللمخرج الفلسطينيّ نصري
حجّاج المشتّت بين مخيمات اللجوء وبين المنافي والشتات، يبحث فيها قصّة موت الفلسطينيّ في أصقاع الدّنيا، في الوطن والشّتات، في الغربة وفي ظلّ اللجوء والنّفي والمنفى.
يأخذنا نصري
حجّاج في أصقاع الدّنيا، فناجي العليّ يرقد في لندن، وأبو عمار يرقد في رام الله، وأبو جهاد الوزير يرقد في دمشق، وأبو إياد يرقد في تونس، وآلاف يرقدون في مقابر مجهولة لم يَعرف ذووهم أين هم وأين دفنوا.
كلّ إنسان له وطن من حقّه أن يدفن في ترابه، بغضّ النّظر عن مكان وفاته، إلاّ الفلسطينيّ فهو لا يمتلك هذا الحقّ، لذا لم يدفن الرئّيس ياسر عرفات في القدس، وبقي ناجي العليّ مغتربًا حتّى في قبره، ولم يتح لأبي جهاد أن يرى أرضه حتّى بعد الاستشهاد؛ فالفلسطينيّ يظلّ لاجئًا حيًّا وميّتًا (…) طالما تمنعه الإجراءات الإسرائيليّة حتّى من تشييد قبر فوق أرض الوطن، فقوانين إسرائيل تمنع دفن غير اليهوديّ في أرض فلسطين، فهي تعتبرها حكرًا على اليهود، وعد الرّبّ، ولا تريد أن ترى في كذبتها الكبيرة الّتي أسمتها أرض إسرائيل، بشر من غير اليهود ميّتين كانوا أو أحياء.
هي قصّة الفلسطينيّ بعد الموت من خلال التّجوال بين قبور الفلسطينيّين في بقاع العالم، وهي الحلم بالكرامة المنشودة للفلسطينيّ حتّى لو كان ميّتًا، فلنشاهد معًا ظل الغياب وتشرّد الفلسطينيّ ميّتًا بعد تشرّده حيًّا.
ولقديصور انطلق التصوير من فلسطين وتحديداً من المناطق التي ولد وعاش فيها درويش، إضافة إلى جزء تم تصويره أيضاً في باريس مع رئيس الحكومة الفرنسية السابق دومينيك دوفيلبان الذي كان صديقاً مقرباً من درويش وله أعمال شعرية أيضاً.
كذلك تم الانتقال إلى المدينة الإسبانية سان سيباستيان حيث يعيش الشاعر الأمريكي مايكل بالمر الذي قرأ أيضاً القصائد بصوته عربوناً عن وفائه لتلك الصداقة التي ربطته بدرويش....