د. مصطفى يوسف اللداوي
من وجد صديقاً في هذا الزمان فليتمسك به ولا يتركه،
ولا يتخلى عنه ولا يفرط فيه،
ولا يغيب عنه ولا يخذله،
ولا يسمح لغضبٍ أن يذهبه، ولا لسوء فهمٍ أن يضيعه،
ولا يتيح لنمامٍ أن يفسد علاقتهما، ولا لحاسدٍ أو يوقع بينهما، أو يغري بهما،
فقد عزَّ في زماننا الصديق، وانعدم بيننا الخلُ الوفيُ،
وشاعت بيننا المصالح، وعمت في علاقاتنا المنافع،
لكن الصديق الوفي، قديماً كان، وإلى نهاية العمر سيبقى،
فلن يخلو منه الزمان، ولن يشكو من غيابه الإنسان،
وستخلقه الأيام، وستبقيه الأحداث، وستجلوه الصعاب والتحديات،
وسيبقى هو الأقرب وصاحب الحظوة الأدوم،
يهب عند كل نداء، ويحضر عند كل نازلة،
ويكون في الفرح شريكاً، وعند الأحزان سنداً ورفيقاً،
تفتقده النفوس، وتشتاق إلى لقياه العيون،
وتبش له الوجوه حباً وسعادةً، وتضحك من أجله الأشداق صدقاً ومودة،
والصديق أخٌ أو أب، وأمٌ أو أخت، وزوجٌ أو ولد، وغير ذلك من الجنسين يكون، والأصل فيه بين بني الإنسان أن يسود،
فهنيئاً لمن كان صديقاً وفياً، أو كان عنده خلٌ محب،
فليباهي به ويفاخر، وليتيه به ويزهو، وليرفع به رأسه، ويقوي به ضعفه،
--
الحنين إلى الماضي الجميل
حنيني إلى الماضي شديد، يكبر يوماً بعد آخر، يسكنني ولا يفارقني، وبه أعيش وأمضي،
أشعل في أتون الذكريات المزيد من النار، لتبقى الذاكرة مشتعلةً ولا تخبو، ولكن رماد الذكريات يزيد،
أنفخ في بقايا الرماد، يشتعل بعضه ويتقد، فما زالت تحته جمرةً تلتهب،
وبعضه يذريه النفخ فيطير، فلا رماداً يبقى ولا فيه جمراً يشتعل،
كلُ يومٍ يطوى يصبح ذكرى، فلا أعرف قيمة ما كان فيه إلا عندما أعيش بؤس اللاحقات، وشقاء القادمات،
القادماتُ بؤسٌ وألم، وحزنٌ وجوىً، ومعاناةٌ وشقاء، وتيهٌ وضياع، وفيها الكثير من الآهات والأنين،
ويلنا ... كيف قتلنا ماضينا الجميل، وطمسنا أيامنا الحلوة، ولونَّا بالسواد بقية عمرنا،
أين قلم الرصاص فما باله صار رصاصاً يقتل ولا يكتب، يجرح ولا يرسم،
وأين الألوانُ الجميلة الزاهية البراقة التي كانت تلون دفاترنا،
ما بالها اليوم اتحدت فصارت كلها لوناً واحداً، دماً أحمراً قانياً، ينعب ولا ينضب، يفجر ولا يتوقف،
أين أنت أيها الزمان الذي كان نقياً كالغمام، طاهراً كالندى، صافياً كصفحة السماء،
لا أجمل من ماضٍ تكون فيه طفلاً، صغيراً لا تحمل الأعباء، ولا تسكنك الهموم، ولا تتطلع لغير اللهو واللعب،
أمنية الطفل كانت سيارة أو بارودة، أو بعض مفرقاعاتٍ تدوي أصواتها ولكنها لا تخيف،
وحلم الطفلة كان عروساً أو فستاناً، تتزين به وتختال، وتتصور به وتكاد تصدق أنها العروس،
ألا أيها الماضي الجميل ألا عُد، وكن لنا طاهراً كما كنت، نقياً كما عشناك، صافياً كما عرفناك،
لا نريد دنيا ملؤها الكره، ويسكنها القتل، ويعيش في جنباتها الغدرُ، ولا يسودها الخيرُ،
ولسنا بحاجةٍ إلى عالمٍ متوحشٍ مفترس، لا مكان فيه للفقراء، ولا متسع فيه للبسطاء،
ألا تعساً للسلطة التي تقتل وتفسد، وقاتل الله المصلحة التي تخرب وتدمر،
فيا طهر الأطفال أقبل، ويا صدق الصغار هيا عد،
يا أبي عد حنوناً كما كنت، فقد بتُ في حاجةٍ إلى حنانك، وإلى صدق اهتمامك، وصفاء عطائك،
ويا أمي أين حرصك، وأين ذهب خوفك، فما أشد حاجتي إلى صدرك، وما أحوجني إلى حبك،
وأنت يا أخي لا يطغيك المال، ولا تقتل نفسك المنافع، ولا تغرنك المكاسب،
وكن أخي الصغير الذي عرفتك، والكبير الذي أحببتك،
ألا أيها الناسُ، الأهل والجيران والأحبابُ، أينكمُ اليوم من ماضٍ عشناه وأحببناه،
أينكمُ اليوم ... عودوا فزينوا دنيانا، وطهروا بالحب عالمنا، وكونوا لبعضكم كما كنتم أهلاً وإخواناً ...