غونترغراس إذ يعلق الجرس !
خاص بالموقع
أمس، كنت على موعد مع أزيد من خمسين شخصية ألمانية من مختلف الاتجاهات والمدارس والأعمار، جاءوا للاستماع لمحاضرة لي في معهد الشؤون الخارجية ” Auslandsinstitute” بمدينة دورتموند، كانت بعنوان “ربيع العرب، صعود الإسلام السياسي ومستقبل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي”…وكان لنا حوار ذو شجون تنقّل حولمعظم ما يمكن أن يندرج تحت هذا العنوان العريض، من عناوين فرعية، أحسب أن متابعي وقراء هذه “الزاوية” يعرفون تمام المعرفة، وجهة نظر كاتب هذه السطور حيالها، فلاحاجة لتكرارها.
لكن قضية الشاعر الألماني غونتر غراس، أو “عميد الأدب الألماني” كما يوصف، الحامل لجائز نوبل لآداب عام 1999، فرضت نفسها على نقاشات الندوة والحضور…سألني أحدهم رأيي في قصديته الأخيرة التي نشرها في الرابع مننيسان/أبريل الجاري، والتي أقامت الدنيا ولم تقعدها…أجبت أن مشكلة غراس الوحيدةأنه “نطق بالحقيقة كما هي، لا أكثر ولا أقل”…بدا الجواب مرضياً لكثيرين في القاعة، التي غاب عنها أو “قاطعها” ممثلو “اللوبي اليهودي” في المدينة كمافهمت.
سألتني سيدة من بين الحضور، وبعد أن استفاضت في شرح موقفها ومواقف قطاع واسع من السياسيين والمواطنيين والمثقفين الألمان، الذين ضاقوا ذرعاً بمواقف إسرائيل وسياساتها وممارساتها العدوانية والاستيطانية والعنصرية…ما العمل؟…نحنلا نستطيع أن ننتقد إسرائيل علناً، وإلا أتهمنا بـ”اللاسامية”…أجبت بأننا نحن معشر “الساميين” العرب، لا ننجو بدورنا من سهام الاتهام بـ”اللاسامية” و”إنكارالمحرقة” في كل مرة ننتقد فيها إسرائيل في أي محفل دولي، علماً بأن جرائم إسرائيل بحق الفلسطينيين، تنتمي إلى ذات “فصيلة” الجرائم التي قارفها النازيون بحق اليهودوغيرهم من شعوب الأرض، في المنقلب الأول من القرن المنصرم…لا بديل عن مواجهة سياسة الابتزاز والحجر على العقول والضمائر التي تمارسها أطراف لا ضمير، هذا أضعف الإيمان، رددت على السيدة المحترمة.
متحدثٌ آخر أشار إلى “الابتزازالأمريكي” لألمانيا، مذكراً بالعواقب التي تعرض لها ساسة ألمان، قرروا الخروج منتحت العباءة الألمانية، مذكراً بتجربة المستشار جيرهارد شرودر (1998-2005) على سبيل المثال…قلت أن بلداً بحجم ألمانيا وقوة اقتصادها، لا يليق به أن يظل متدثراًبالعباءة الأمريكية…وتساءلت مازحاً إذا كانت ألمانيا غير قادرة على مقاومة الضغط والابتزاز الأمريكيين فلماذا يلوم البعض في منطقتنا، السيد محمود عباس، إن هو تحوّط لمواقف واشنطن وأدرجها في حساباتها…لا بد من نظام عالمي جديد، الأمل معقود على صعود قوى جديدة، ربما تكون مجموعة “بريكس”، في صدارتها.
غراس كان أطلق قصيدة، حمل فيها على قيام حكومته بتزويد إسرائيل بغواصات قادرة على حمل رؤوس نووية…انتقد النفاق الحكومي في بلاده الذي يعظّم الخطر النووي الإيراني، ويغمضالأعين عن الدولة الوحيدة المدججة بالرؤوس النووية ووسائل نقلها…غراس، الشاعروالمثقف، طالما وقف إلى جانب قضايا السلام العالمي، وانتقد سياسات إسرائيل الاستيطانية المهددة لعملية السلام، عبّر في قصيدته عن “تمرد الضمير الألماني” فيوجه سياسات الابتزاز التي تمارسها “جماعات الضغط” وحكومات إسرائيل وأوساط ألمانية،اعتادت الخضوع للابتزاز الإسرائيلي، بحجة أن “تاريخ ألمانيا” لا يسمح لها أن تكونفي غير هذا الموقع، أو أن تتخذ مواقف مغايرة.
واللافت حقاً، أن استطلاعاً للرأي أجرته “فاينانشال تايمز”، أظهر أن 54 بالمائة من الألمان يؤيدون ما ذهب إليه غراس من مواقف في قصيدته “التاريخية”…وأن 29 بالمائة منهم يرون أن ما ورد فيها من أفكار، أمرٌ قابل للنقاش، للخطأ والصواب، أي أنها ليست مننوع “التابو” الذي يحظّرعليهم الحديث فيه أو الاختلاف عليه….فقط 4 بالمائة قالوا أنه معادٍ للسامية،ومثلهم قالوا أن ما ورد في قصيدته “خطير”، ورأى 9 بالمائة أنه كلام بلامعنى.
هو إنقلاب في الرأي العام الألماني، يعزز ما ورد في استطلاعات دولية سابقة، أجرتها مراكز أبحاث غربية مرموقة، أظهرت أن غالبية واضحة من الألمان، ترى أنإسرائيل هي واحدة من أكبر، أن لم تكن أكبر، مُهددات الأمن والسلم الدوليين…لكن سياسات الابتزاز التي تمارسها إسرائيل و”لوبيّاتها” النافذة، وخضوع ساسة ألمان، لحسابات انتخابية وسياسية، إنتهازية أحياناً، تمنع الشعب الألماني من التعبير عن”ضميره” حيال قضايا المنطقة، وفي المقدمة منها قضية الشعب الفلسطيني.
وبالعودة إلى المحاضرة في معهد الشؤون الدولية، فقد لاحظت على بعض قادة الجالية الفلسطينية، علائم الارتياح، فالحضور الألماني المتميز، برغم قصرالمدة الزمنية للدعوة والترتيبات الخاصة بها، برغم موسم العطل والأعياد، ينهض دليلاً على توق النخب الألمانية، للاستماع لـ”الرواية الأخرى” لما يجري في المنطقة عموماً وعلى جبهة الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، كما أن التعليقات الجانبية للمشاركين الألمان في الحوار الذي أعقب المحاضرة، أظهر تعاظفاً ملحوظاً من لدنهم،حيال حقوق شعب ومطالبه العادلة والمشروعة.
غونتر غراس، أطلق دينامية جديدة في المجتمع الألماني…كسر ثقافة الخوف عن الألمان، تماماً مثلما كسّر “ربيع العرب” ثقافة الخوف عن شعوبهم…غراس بدا غير نادم وغير مستعد للتراجع عمّا جاء في قصيدته،برغم الحملة العاتية التي تعرض لها، انطلاقاً من تل أبيب وحتى آخر بقاع النفوذالصهيوني في أوروبا والعالم…غراس أكد للألمان بأن نقد إسرائيل لا ينبغي أن يندرجفي إطار جرائم “إطالة اللسان” التي يشتهر بها العالم العربي، بل يجب أن يوضع في خانة حرية الرأي والتعبير…غراس برهن للألمان بأن نقد إسرائيل وتعرية النفاق المحيط بممارساتها العدوانية، ليس حقاً للألمان فحسب، بل واجب عليهم، يمليه الضميرومنظومة القيم الأخلاقية ومنطق العدالة والحق…فتحية إلى غراس وهو يعلق جرساًثقيلاً، فاتحاً الطريق لتغييرات جذرية في مواقف واتجاهات الرأي العام الألمانية.