سأحاول تجنب البشر. ثمة كلام كثير قيل عنهم، خطب أكثر، دبجت لنلتفت إليهم. قنوت وقنوات، مقالات ومحاضرات. ولأن منظمات العالم الإنسيّ غير الإنسانية أحياناً، تهتم لانقراض دببة الباندا، في مجاهل الأرض، أكثر مما تمثله لها مجزرة دير ياسين مثلاً، أو حرب لبنان، أو حتى ضحايا السيول، في أي بلد عربي، أو عالمي كان.
ماذا يمكن أن نقول أصلاً، لو أردنا التحدث عن البشر في غزة: عن آلامهم مثلاً، ماتوا ونسوها. عن نقصان المياه، دماءهم أكثر نقصاناً. عن فقدان الخبز، الأرواح تفقد بصورة أكبر، وبالتجزئة والجملة. عن قلة العلاج، الأطباء أقلّ. بينما المستشفيات، مستودعات أسلحة، كما يقول ضابط إسرائيلي، غير مسمى غرفة المواليد، لغرفة المشرحة، بصاروخ واحد.
ولذلك، تأتي حديقة حيوانات غزة، على أجندة المهتمين بشؤون وحقوق الحيوان في العالم. ثمة حديقة في غزة، تملك حماراً وحشياً وحيداً، قتل أثناء العدوان الغاشم، وطوّعت إدارة الحديقة حمارين آخرين، غير وحشيين، عن طريق تخطيط جلودها البيضاء باللون الأسود، لتغدو حميراً وحشية، من سلالة عريقة، رغم زيفها، تبهج الطفولة المحاصرة، وتغنيها بقليل من فرح.
وهذا الخبر، قد يعكّر مزاج الرقة للممثلة الفرنسية برجيت باردو الناشطة في الدفاع عن حقوق الحيوان، والتي تتهم العرب والمسلمين دوما بالبربرية لذبحهم الأضاحي في حين لم تسمع يوماً بأي مجزرة بشرية في فلسطين. أو لم نسمع لسعادتها نحن تصريحاً حول ذلك.
والحقيقة أن حدائق غزة، لم تعد فيها الكثير من حيوانات، حيث لم توفر القنابل شيئاً ذا ندرة. والباقي إن لم يكن متهالكاً وجائعاً وينتظر القصف القادم، ويحتاج لطعام لا يجده البشر أحياناً، فهو محنط، وجاثم كجثة للتأمل، بعد ما أفرغت الرصاصات الحياة من نفوسها.
****
المخرج السويسري نيكولا فاديموف، تمكن من دخول ما تبقى من غزة، بطريقة ما، وسجل ما يزيد على سبعين ساعة من المشاهد الحية، يختصرها فيلم تسجيلي، بثته قناة الجزيرة للأطفال، تحت عنوان "عايشين"، وفيه تحدّى من ساوره شك أن ما وقع بغزة في ديسمبر 2008 يناير 2009، ينكر كونها جريمة حرب وانتهاك للإنسانية والحضارة والمدنية.
المجموع البشريّ المقيم في مساحة جغرافية هي الأعلى كثافة سكانية في العالم، ينهك حصاراً في أكبر عمليات القرصنة العسكرية في التاريخ، وسط صمت دولي، ورقدة ضمير، قد تستنفره الآن، ما تبقت في حناجر الحيوانات الضعيفة، اللامعنية بالصراع، من صرخة مبحوحة، وقد تجرح شعوره الرقيق، كما قالت وسائل إعلام أجنبية، أن تكون الصبغات السوداء على جلد حمار غزة، ضارة ولا صحية بالبشرة، ومنتقصة لحقوق الحيوان العالمية. ومن البليّة المضحكة أيضاً، أنّ الجهاز الفني في الحديقة، لم يفوت هذا الموضوع ليعلن فيما بعد أنه يستعمل صبغات موجودة في مراكز التجميل البشرية، وأنّه لا ضرر منها ولا خوف.
ولسوء الحظ، فالمشاهد لكاميرا فاديموف، قد يشاهد من الدمار والمأساة أكثر مما يمكن أن يشاهده في مجموع من أكثر أفلام هوليود المخصصة في الرعب والإثارة. يرصد شوارع وساحات غزة، من البحر المهجور من الأسماك، وإلى المعابر المكتظة بطوابير البشر الممتدة، مستسلمة لقدر محموم، تنتظر علاجاً، أو نقل "جثة" مريض للجانب الآخر، ولو تهريباً، إلى لقطات لمدارس يصر أطفالها على الحضور وسط قصف مستمر، وجوامع هدّمت، وبيوت أخليت من ساكنيها، وحديقة حيوان أقفاصها خالية إلا من كائنات غريبة محنطة، أو جثث مشوّهة.
في عالم تحرّك من أجل بشرة حمار، وتعب نمر متهالك، ولم يبالي بـ 1400 ذهبوا رهن مقتلة عامة، غطتها كل قنوات الأرض، وشاهدها العالم، بكلّ ما فيه من أنظار، وبقي صامتاً، حتى يثب له المحقق الدولي غولدستون أنّ ما حدث جريمة. وأنّ لا بدّ من "تحقيق"، ماذا يمكن للإنسان أن يقول، أو للكاتب أن يكتب سوى أن يضع الخبر كما هو .. ونقطة.
|