يؤسس الإسلام للناس طريقة في التفكير تقوم على تفعيله, والإفادة من نتاجه الصافي, غير المحجوب بالأهواء, والتعصب, ويفرض على المسلمين القول السديد, والعدل, ولو على أنفسهم, ولا يجيز لهم أن يجوروا في الأحكام, ولو مع شانئيهم, قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ). [المائدة:8].
إنارةُ العقلِ مكسوفٌ بطوعِ هوًى
وعقلُ عاصي الهوى يزدادُ تنويرا
أقول هذا على وقع التعصب المجحف بالحق الذي قلّ الناجون منه اليوم, وهذا فوق كونه مخالفاً للتوجيه الإسلامي؛ فإنه يصادر التفكير, ويحرم صاحبه الرقي في مدارج التطور المعرفي والثقافي الذي لا يحتكره أحد, ولا جماعة.
فمن أراد التفكير ورجا ثماره, فلا مناص له من الموضوعية التي تقتضي حصر البحث في الموضوع المطلوب, ثم اليقظة التامة مما يُصطلح عليه بالتفكير الرغبوي, ويصدق هذا على التفكير التشريعي, كما يصدق بوضوح على التفكير العلمي, أي في مجال العلوم التجريبية, وما أُلحق بها, كما ينطبق على علوم الاجتماع, والسياسة, وغير ذلك.
ففي التفكير التشريعي لا يحل للفقيه ألاّ يستفرغ جهده في تحقيق مناط المسألة محل الاجتهاد, أو الفتيا, نائياً بنظره عما تميل إليه النفس, أو ما يجنح إليه بطبعه, بغض النظر عن نوع طباعه, من حيث الشدة, أو التساهل؛ لأنه من المسلمات أن الدين لا يُؤخذ بالتّشهّي, وإنما يُجتهد فيه بالنظر السليم المؤسّس على طريقة مرتضاة من المجتهد, أو الفقيه, وهي الأصول التي يبني عليها الفقيه فقهه.
والمفكر في السياسة, ينبغي له أن يفرق فيها بين مسارين:
الأول: يتمظهر في التحليل والتفسير للوقائع والمتغيرات, من حيث فهم طبيعتها, وأسبابها, ودوافعها, وأهدافها والجهات التي تقف وراءها, والأدوات التي تتلبس بها, والخيارات الممكنة, والخيارات المرجحة, وما إلى ذلك. والمحلل السياسي هنا ملزم بالحياد, كما هو ملزم بالتقصي, والإحاطة؛ ليكوِّن صورة أقرب إلى الواقع.
ولكنه بعد أن يفرغ من الفهم والمقاربة السياسية التوصيفية المجردة, يعمد إلى المنظومة الفكرية التي يؤمن بها؛ ليرى رأيها؛ فيكوِّن بناء عليها رأيه, من حيث القبول والتأييد, أو الرفض والتنديد.
والساعون إلى النهوض بأمتهم, كذلك, لا غنى لهم عن التقويم السليم البعيد عن التهويل والبعيد كذلك عن التيئيس, وصفاً موضوعياً يحدد نقاط الضعف في الأمة ونقاط القوة, ولا يسمح للمفكر ولا حتى الخطيب أن يخدع المتلقين لخطابه, أو يستغبيهم؛ لأنه يضر بالخطاب الذي يحمل, كما يضر بنفسه وبمصداقيته, وربما تعدّى ضرره غيره, ويضرّ كذلك-وهو الأخطر- باستعدادات المتلقين التي ربما تُحبط من جراء ذلك الرفع السامق, ثم الإرداء بهم إلى مستوى الحقيقة والواقع.
وليس أقل خطورةً أولئك المثقفون والكتاب, الذين يطبعون خطاباتهم, وتشخيصاتهم بصبغة قاتمة من التشاؤم والتبرم؛ بعرض النماذج السلبية, وانتقاء المشاهد المؤلمة, وهي موجودة, دوماً, سواء ضررهم بسوء نية كان ذلك منهم أم بحسنها.
فإذا كان الخطاب موجّهاً للناس, وهم في مقام المرضى, والكاتب أو المحاضر في مقام الطبيب؛ فهل من الحكمة أن نظل نعدد له علامات المرض وأعراضه، أم أن الأولى أن ننفذ إلى منطقة المرض ومسبّباته؛ فنعمل على علاجها, بما يلزمها, مع الإقرار أن ثمة حالات تستوجب تبصير المريض بخطورة مرضه, وإقناعه بضرورة الكف عن مسبّباته؛ إن كان من المكابرين, أو المنكرين لأمراضهم؟! لكن الحاصل أن الناس اليوم هم أبصر الناس بالظروف الصعبة التي تمرّ بهم, وهم- وهذا المفترض- الأحرص على البُرْء منها, لكنهم إما يستصعبون ذلك, أو يضلون في طرق لا توصل إلى العلاج, أو يختلفون في نوع الدواء, وفي تشخيص الداء, فلا عذر للمثقف أن يتخذ من خطابه الثقافي وسيلة للتنفيس عن غيظه, تأكيداً للواقع، فلا كان المثقف إذا لم يكن سبباً للرقي بالناس والانتقال بهم إلى آفاق واسعة, وحلول ممكنة!
وهنا وفي حالة أمتنا ليس من وظيفة المفكر أن يكون محايداً؛ لأن الحياد قد يكون سلبية, وقلة انتماء؛ فليس عمله تصويراً فوتوغرافياً, كلما رأى مشهداً التقطه, وإن كان يراقب, ولكنه يعيد تصنيع تلك المادة ويحسن توظيفها, وهو مع اتساع أفقه إلاّ أنه ينظر إلى العالم من زاوية خاصة, تحدد له رأيه, واختياره, وترتب له أولوياته.
هذا ضروري, قبل العمل؛ فالرأي قبل شجاعة الشجعان, والفكرة فخ العمل, وكم أهدر المسلمون في هذا العصر طاقات من الأرواح والأموال؛ لعدم وضوح الرؤية, أو لأسبقية الرغبات على التوصيف الدقيق! فلكل شيء قدر, ولكل شيء أسبابه.
وأهم ما في الأمر أن التفكير المسؤول يتطلب الحياد حيث يجب الحياد؛ فالأمور تُرى كما هي, وينصف في توصيفها, أياً كان الصانع لها, أو المتلبس فيها؛ ثم يُحدّد الموقف منها, ويُدعى إليه على بصيرة وهدى.
|