"بين الوطن والمنفى: من يافا بدأ المشوار"
كتاب شفيق الحوت ... سيــرة ذاتيــة أبطالهــا آخــرون
عرض: صقر ابو فخر
السير الذاتية الفلسطينية، في معظمها، كالخروب اليابس، يحتاج المرء قنطاراً منه ليستحلب أوقية واحدة من الدبس. أما سيرة شفيق الحوت "بين الوطن والمنفى" (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2007) فهي الحلاوة بعينها، بل هي رحيق تلك الايام العاصفة، بحلاوتها ومرارتها، وهي عصارة ثمينة لتلك التجربة الصاخبة التي بدأت في يافا سنة ,1932 ولما تنته في بيروت بعد. إنها ليست سيرة إنسان فلسطيني واجه أقداره بعناد ونبل وشغف، فلمع اسمه كواحد من أبرز المناضلين في الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، بل، فوق ذلك، سيرة فلسطين نفسها، أي سيرة الناس والأمكنة والأحبة وتقلبات الاحوال والنضال المرير في السياسة والدبلوماسية والعمل المباشر، وسيرة الألم وسيرة القلب وسيرة الشرايين المسدودة، وسيرة الحنين الى يافا التي ولد فيها في 13/1/1932 وغادرها في 23/4/1948 على ظهر السفينة اليونانية "دولوريس"، وخلّف في ثراها شقيقه جمال الذي استشهد مدافعاً عنها في 2/4/.1948.
عاش ليروي: بشير الجميل ومجزرة الكحالة
الامتاع، على أهميته، ليس غاية المذكرات والسير، بل، علاوة على ذلك، الافصاح وكشف الأسرار وتصحيح بعض الروايات الشائعة. ومذكرات شفيق الحوت، فضلاً عن المتعة الراقية التي تثيرها في الذهن والوجدان، تعيد الاعتبار الى الوقائع الصحيحة في بعض جوانب التجربة الفلسطينية. وطالما خلط الباحثون، على سبيل المثال، "جبهة التحرير الفلسطينية" التي أسسها شفيق الحوت مع مجموعة من رفاقه في بيروت سنة 1963 بـ"جبهة التحرير الفلسطينية" التي أسسها أحمد جبريل في دمشق سنة ,1966 وبـ"جبهة التحرير الوطني الفلسطينية" (ج.ت.ف.) التي أسسها أحمد السعدي في تلك الفترة. وفي هذه المذكرات يروي التاريخ الحقيقي والحي لهذه الجبهة التي كان من أركانها خالد اليشرطي وعبد المحسن ابو ميزر (بعثيان) ونقولا الدر وسميرة عزام وابراهيم ابو لغد ورجائي بصيلة وبهاء ابو لبن وراجي صهيون وسعيد بركة وعبد القادر الضاهر وغيرهم، وكيف انضمت إليها مجموعة احمد السعدي (ج.ت.ف)، فتمكنت هذه المجموعة الجديدة من ترشيح أحمد السعدي وأحمد صدقي الدجاني الى عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية اللذين انتخبا لهذا الموقع.
إن إحدى روايات التجربة الفلسطينية في لبنان التي جرى تشويهها بصورة متعمدة ومتمادية هي ما أشيع عن أن أحد الحواجز في منطقة تل الزعتر كان أوقف بشير الجميل واعتقله لساعات (في إشارة الى التجاوزات الفلسطينية آنذاك)، وكانت حجة الفلسطينيين انهم وجدوا في صندوق سيارة بشير الجميل جماجم ملوثة بالدماء وبقايا النخاعات... الخ. وها هو شفيق الحوت يسرد الرواية الصحيحة كما وقعت بالفعل فيقول: نشطت احدى العصابات اللبنانية في ترويج المخدرات، وكان أفرادها يستعملون زي الفدائيين للتمويه. وفي إحدى المرات تصدى لهذه العصابة جهاز الكفاح المسلح (أي الشرطة العسكرية) ووقع بينهما اشتباك مسلح قتل خلاله النقيب الفلسطيني سعيد غوّاش. وفي اليوم التالي (26/3/1970) تحركت مجموعة فدائية غير مسلحة من 14 شخصاً من بيروت الى دمشق لترافق جثمان الشهيد الى دمشق حيث تقيم عائلته. وعند "كوع الكحالة" المشهور انهمر الرصاص على الموكب من السطوح ومن برج الكنيسة، فقتل الفدائيون جميعهم. وفي تلك الاثناء كان الصحافي جورج فرشخ (من زغرتا وله عدد من الروايات والافلام الوثائقية وكان يعمل آنذاك في تلفزيون لبنان) ماراً بالصدفة بتلك المنطقة في طريقه الى زحلة، فصوّر الحادثة. وعند تحميض الفيلم ظهر بشير الجميل وهو يطلق النار من برج الكنيسة. وبعد بضعة أيام أوقف الفدائيون بشير الجميل عند أحد حواجزهم بعدما عثروا في صندوق سيارته على بعض القبعات الحمر وهي ملطخة بالدم وبقايا الادمغة، وهذه القبعات هي ما كان يعتمرها أفراد الكفاح المسلح. ومع ذلك، ونتيجة لرغبة كمال جنبلاط، وحتى لا تتطور الامور الى أبعد من ذلك، أطلق سراح بشير الجميل من غير أن يحاكم (ص 166ـ167)، وهذا ما حدث حقاً.
أتاحت الصحافة لشفيق الحوت أن يلتقي أعلاماً قلما يتكررون في هذه المنطقة العربية، وزودته بذخيرة معرفية لا تضاهى. ففي سنة 1958 نشر في "الحوادث" أول حوار له مع كمال جنبلاط بعد أحداث سنة .1958 وفي هذا الحوار أفصح جنبلاط عن أن "من يريد إحداث التغيير في لبنان، قبل أي شيء، أن يؤمن ظهره في سورية، إذ يستحيل أن تتفرج سورية على ما يحدث وكأنه لا يعنيها باعتباره شأنا داخلياً" (ص 241). وبعد تسعة عشر عاما، أي فور اغتيال كمال جنبلاط، تساءل شفيق الحوت: كيف سمح كمال جنبلاط لنفسه أن ينسى هذه المقولة؟
مهما يكن الأمر، فالصحافة أتاحت له أن يلتقي جمال عبد الناصر ست مرات: الاولى في دمشق في سنة ,1959 والثانية في أثناء شهر العسل في سنة ...1962 وهكذا. وفي احدى الزيارات يروي أبو هادر: وصلت مع محمد حسنين هيكل الى منشية البكري قبل موعد اللقاء مع عبد الناصر، واقترح هيكل أن نتمشى قليلا في أحد شوارع منشية البكري حتى يحين الموعد. وفي ذلك الشارع استوقف هيكل فتى يركب دراجة هوائية وخلفه يجري طفلان أصغر منه. وقال هيكل: "عارف مين دول؟ ولاد عبد الناصر والكبير ده يبقى خالد. كانوا بلا حراسة ولا مرافقين... يلعبون في الشارع أمام منزل والدهم مثل أبناء الناس (ص 156). نعم مثل أبناء الناس لا مثل أبناء الآلهة. ومن نكد الدنيا في هذه الايام المنحوسة أن كل لص اغتنى بطريقة غير مشروعة جعل لكل واحد من أولاده "المهضومين" مرافقين للمدرسة والمطعم والمسبح والنادي، علاوة على كلاب حراسة في الشارع الذي يقيم فيه مع زوجته الكاعب. ومن طرائف تلك المرحلة أن أحمد الشقيري حينما اشتد خلافه مع شفيق الحوت في سنة ,1967 أصدر قراراً ينص على نقله من بيروت الى مكتب نيودلهي. ولم يكن ثمة أي وجود لمكتب نيودلهي على الاطلاق في ذلك الحين (ص 389).
تحت حزام ياسر عرفات
إذا كان شفيق الحوت هو صاحب هذه المذكرات الشائقة، فإن بطل هذه المذكرات، أو على الاقل الشريك في البطولة، هو ياسر عرفات. وهذا أمر بدهي، لان ياسر عرفات، مهما اشتد الخلاف عليه، هو أبو "الوطنية الفلسطينية" الجديدة، وصانع الحركة الوطنية المعاصرة، وصاحب المشروع السياسي الوحيد لتجسيد الوطنية الفلسطينية في دولة مستقلة. وكان خطاب ياسر عرفات في الامم المتحدة إحدى المحطات الفائقة الاهمية في المسيرة الفلسطينية المتعرجة. وحتى اليوم لم تنجل تماما أسماء الذين صاغوا هذا الخطاب التاريخي، وما زال الالتباس يسربل بعضها.
إن مذكرات شفيق الحوت تفصح عن هذا الأمر بوضوح تام على النحو التالي: وضع مسودة هذا الخطاب نبيل شعث، وراجعت النص لجنة مؤلفة من وليد الخالدي وصلاح الدباغ ومحمود درويش وشفيق الحوت، وترجمه إلى الانكليزية ادوارد سعيد ورندة الخالدي. وأتساءل بدوري: هل ساهم في صوغ الخطاب منير شفيق ومحجوب عمر كما تواتر الكلام إلينا؟ وأقول: ربما اطلع كل منهما عليه وأبديا الملاحظات لأن نبيل شعث كان مديراً لمركز التخطيط في تلك الفترة، وكان منير شفيق نائباً له، ومحجوب عمر مستشاراً في المركز.
ومن طرائف هذا الخطاب كما يرويها شفيق الحوت أن وليد الخالدي، بعد أن أنهت اللجنة مراجعة النص والتدقيق في مفرداته وعباراته، التفت الى ياسر عرفات وقال له: بقي أمر واحد يا أبا عمار لا يستطيع أحد منا إضافته إلى الخطاب إلا أنت. وراح أبو عمار يُقلِّب الأوراق بين يديه باحثاً عن نقص ما فلم يجد. فالتفت إلى وليد الخالدي قائلاً: عن شو عم تحكي يا وليد؟ فرد عليه الخالدي: عن لحيتك. هل تعدنا بأن تحلقها قبل أن تلقي الخطاب؟ وكاد ياسر عرفات أن ينسى، في آخر لحظة، حلاقة ذقنه. ويضيف شفيق الحوت أنه ومحمود درويش حرّكا له أواخر الكلمات بخط أحمر واضح. ومع ذلك لم يترك ياسر عرفات خطأ إلا ارتكبه. وكان هناك جدال في شأن دخول ياسر عرفات الى مقر الجمعية العامة للامم المتحدة ومسدسه في حزامه أم من دونه. وعندما سأله أحد الصحافيين: هل كان جراب المسدس فارغا أم ان المسدس كان فيه حقا؟ أجاب شفيق الحوت: لقد احتككت بياسر عرفات أكثر من مرة، ولا أذكر أنني لمست شيئا صلبا الى جانبه.
إذا كان ياسر عرفات هو بطل هذه المذكرات الى حد ما، فإن حضور بقية القوى السياسية الفلسطينية فيها يبدو باهتا جدا الى حد كبير، ولا سيما "قوى المعارضة" التي أسهب أنيس صايغ في هجائها بسبب فوضويتها وغوغائيتها وتخلفها وعدم جديتها (انظر: "أنيس صايغ عن أنيس صايغ"، بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2006). لكن شفيق الحوت، من غير إسهاب، وبجملة واحدة، أطلق على هذه المعارضة صلية وحيدة كافية، فذكر انه وجه كلامه الى مسؤولي المنظمات الفلسطينية التي عارضت مثله اتفاق اوسلو، وراحت تبيع المراجل والعنتريات قائلا: هناك مجمع للنفايات في مخيم شاتيلا يرقد تحته مئات من شهداء مجزرة صبرا وشاتيلا. وأعطيكم مهلة سنة لتنظيف تلك البقعة وتحويلها الى مزار لائق. فإن فعلتم اعتبروني جندياً في صفوفكم. وطبعا لم يحدث شيء من هذا".
يقال إن صاحب الفضل مكثار وصاحب الحاجة ملحاح. وأنا، بين يدي هذه المذكرات، في منزلة صاحب الحاجة الذي انتظر من شفيق الحوت ألا يمر كالطيف سريعاً، من غير الوقوف عند محطات لاهبة في تاريخ القضية الفلسطينية، فيتوفر عليها بالمراجعة والنقد وكشف الاستار عن بعض الزوايا المعتمة في هذه التجربة. وهذه المحطات التي أغفلتها هذه المذكرات هي بالتحديد سبع:
- قيام جبهة الرفض في سنة 1974 والانشقاق العمودي في صفوف منظمة التحرير الفلسطينية.
- أبو نضال (صبري البنا) وعملياته المروّعة ضد الفلسطينيين بالدرجة الأولى.
- اجتياح سنة 1978 بعد عملية كمال عدوان التي قادتها دلال المغربي، وإنشاء منطقة الحزام الأمني في لبنان الجنوبي.
- الانشقاق الذي وقع في حركة فتح في سنة ,1983 وملابساته وعقابيله.
- الحرب على المخيمات (1985ـ1987).
- حرب الميليشيات في بيروت بعد حركة 6 شباط ,1984 والصراع الدامي بين حركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي.
- حركة العودة الفلسطينية ومؤتمرات حق العودة، ولا سيما ان شفيق الحوت هو أحد موقعي إعلان حق العودة في سنة ,2000 وعضو اللجنة التأسيسية لمؤتمر حق العودة في لندن سنة .2003
أنا أعرف تماما أن شفيق الحوت، إزاء هذه القضايا، كالزجاج: الويل له إن وقع على الصخر، والويل له ايضا إذا وقع الصخر عليه. ولعله تجنب الخوض في هذه القضايا متعمداً، لان مذكراته تتحدث عن الامور التي كان له شأن مباشر فيها، وليس من مهمتها الحديث عن وقائع لم يكن له أي دور في صنعها أو الاسهام فيها. ومع ذلك، ما باله تحاشى الخوض في الحب والنساء والحياة اللاهبة وربما اللاهية في بيروت في حقبة الستينيات؟
لقد أشار، بسرعة، الى أول تجربة حب في حياته (في سنة 1953 على الارجح). وعلى أهمية هذه التجربة، لم يبح بأسرارها البتة. حتى انه اكتفى بالكلام على زواجه وكيف أمضى شهر العسل في القاهرة. أما كيف تعرّف الى بيان نويهض، وكيف تحركت المشاعر بينهما، فتلك أمور أخفاها ابو هادر خلف صرامة المناضل بحسب تقديري.
إن مذكرات شفيق الحوت فيها الكثير من البوح ومن الاعتراف، ولا سيما حينما استرسل في الكلام على الموت والحياة بعد عملية فتح شرايين قلبه في نيويورك. وطالما اقتربت لغته من الشعر حينما كان يناجي نفسه في شوارع بيروت، وهو الهائم الذي يبحث عن مكان آمن خشية أن تصطاده المخابرات الاسرائيلية في سنة .1982 غير أن شفيق الحوت، الصديق الحبيب، ليس مجرد مناضل متسربل بالعبوس الثوري على طريقة بعض المناضلين الذين أورثونا العياء والسقم جراء إصابتهم بالإكتام الدائم، بل إنه نموذج نضر للفلسطيني المكافح الذي يستقبل الحياة وألقها كما يستقبل الموت وأسئلته الصعبة.
***
بين الوطــن والمنفــى: من يافا بدأ المشوار
أجزاء من الفصل الرابع
من "الحوادث" إلى "جبهة التحرير"
عدت إلى بيروت في منتصف أيار/مايو ,1958 وكان التوتر فيها وصل إلى ذروته بين المعارضة والحكم؛ بين تحالف صائب سلام وكمال جنبلاط من جهة، ورئيس الجمهورية كميل شمعون من جهة أخرى.
في تلك الفترة لم يكن لـ"الحوادث" من توجه سياسي محدد، ولم تكن تستند إلى فكر سياسي واضح. كان مزاج صاحبها سليم اللوزي هو المؤشر والبوصلة. وكان سليم أكثر ميلاً إلى الصحافة الاجتماعية والفنية والأدبية، التي أبدع فيها على مدى أعوام عديدة، في كل من مجلتي "روز اليوسف" و"المصور" المصريتين.
لكن خلافه مع الرئيس شمعون، وقسوة هذا الأخير في معاملته له وملاحقته وتهديده بالحبس، دفعا به إلى اللجوء إلى دمشق عاصمة "الإقليم الشمالي/ السوري" من الجمهورية العربية المتحدة، أول دولة للوحدة منذ انهيار الدولة العثمانية.
ووجدت نفسي أتحمل وحدي مسؤولية إصدار المجلة من الغلاف إلى الغلاف. ولمّا كنت بطبعي أميل إلى الصحافة السياسية، فقد كان من الطبيعي أن تتضاعف صفحات السياسة وتطغى على ما عداها. ولأول مرة يدخل "أسرة التحرير" الأستاذ منح الصلح كمتطوع، واستجلبنا معاً عدداً من الكتّاب الأصدقاء، منهم الأستاذ موريس صقر وباسم الجسر، فبدأت المجلة تنحو منحى جدياً ملتزماً، عكس نفسه على المجلة ككل رسماً وتصويراً وموضوعات.
وكانت هذه النقلة، مع شحنة العنف التي كانت تصاغ بها أخبار المجلة وتعليقاتها وكاريكاتير "جلول"، سبباً في اتساع انتشارها ارتاح إليه سليم اللوزي، الذي كان لا يزال في دمشق يكتب إلينا منها، ويتلقى عبارات الإعجاب المتزايد بمجلته. ولقد كتب مرة في "الصفحة الثانية"، المخصصة للكتابات الوجدانية، مقالة طريفة تحت عنوان "وطني بالرغم مني"، تعرض فيها لهذه النقلة من "الحوادث". ومما قاله فيها انها لم تكن تصحيحاً لموقف فحسب، بل كانت مجزية كذلك!! (...)
وبحكم موقعي في "الحوادث" كنت على اطلاع دائم بما يجري داخل المخيمات من قمع وتعسف وقهر، ومحاسبة على النوايا أو مجرد التفكير في أي عمل جماعي، حتى لو كان ثقافياً أو رياضياً محضاً.
أصبحت "الشعبة الثانية"، وهي التسمية الشائعة للاستخبارات العسكرية، هي الحاكم المطلق لشعب فلسطين في لبنان، وبيدها وحدها مفاتيح حياته كلها. هكذا، ومن دون أي اتفاق أو بروتوكول يحدد للفلسطيني ما له من حقوق "كلاجئ" وما عليه من واجبات.
ولم يكن في استطاعتي نشر العشرات من الحكايات المؤلمة والمؤسفة والمحزنة والمخزية التي ارتكبت بحق المئات من الفلسطينيين وارتبطت بأسماء ضباط اشتهروا ببطشهم، واكتفيت بالتلميح في معظم الحالات. غير أنني لم أكن أدخر وسعاً في السعي الشخصي المباشر عبر علاقاتي بالمسؤولين من سياسيين وعسكريين لـ"التخفيف من القضاء" الذي يستحيل رده (...).
بدأت أوائل الستينيات تشهد تحركات سياسية تمهد لمرحلة جديدة سرعان ما برزت فيها أهمية خلق "التنظيم الفلسطيني"، لبعث "الكيان الوطني الفلسطيني الثوري"، وإعادة الروح إلى "الشخصية الوطنية الفلسطينية". وكان ذلك طبيعياً كنتيجة لانحسار المد "القومي" وصعود "القطري" أو الوطني.
شملت هذه التحركات جميع الأوساط الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة، ومخيمات الفلسطينيين في سوريا والأردن ولبنان، ومراكز تجمعاتهم في المملكة العربية السعودية والكويت وغيرهما من دول الخليج؛ كما عكست هذه التحركات نفسها على من اغترب بعيداً في الأميركتين. ولا شك في أن نجاحات الثورة الجزائرية التي بدأت تثير إعجاب الدنيا كلها قد ساهمت في دفع هذه التحركات، وطرحت الثورة نفسها نموذجاً جديراً بأن يقتدى به. لذلك، لم يكن من المستغرب أن يلقى مثل هذه "الفكرة" هوى حتى لدى بعض الملتزمين في أحزاب الصف القومي من بعثيين وحركيين وناصريين، ولم يجد هذا البعض أي تناقض بين انتمائه الحزبي وبين الانتماء إلى "تنظيم" فلسطيني جديد. والواقع أن هذا البعض كان بدأ مثل هذا التوجه داخل هيكليات أحزابهم، فصاروا يطالبون بترتيبات تنظيمية خاصة بهم كفلسطينيين.
ومن جملة هذه التحركات ذلك التحرك الذي بدأناه في بيروت سنة ,1961 وعرف في ما بعد بـ"جبهة التحرير الفلسطينية"، وذلك عبر نشرتها الدورية "طريق العودة". وهي غير التنظيم الذي يحمل حالياً هذا الاسم.
إذاً، تحولت "الفكرة" إلى حقيقة مادية، وكانت نواتها الأولى مؤلفة من خالد اليشرطي، وعبد المحسن أبو ميزر، ونقولا الدر، وسميرة عزام، وسعيد بركة، وراجي صهيون، وشفيق الحوت، وآخرين. وكانت نشاطاتنا مركزة على الدعوة إلى ضرورة قيام "التنظيم الفلسطيني" الوطني، وذلك لأهمية استحداث هذا الموقع في حركة التحرر العربية.
وكانت مجلة "الحوادث" هي المنبر الذي اعتمدته هذه النواة لدعوتها، لكن بصورة غير مباشرة. ولا ريب في أنه كان لهذا المنبر الفضل الأكبر في نشر الدعوة وإيصال الفكرة إلى أوسع القواعد الشعبية الفلسطينية في كل مكان. وأخذ "بريد القراء" يزداد بصورة ملحوظة، وكان العديد من هذه الرسائل يحمل تساؤلات أصحابه عن هذا "التنظيم"، وان كان قائماً، وكيفية الانضمام إليه. ثم كان هناك من يتساءل عن رأي "التنظيم" في ما كان يجري في الساحة من خلافات بشأن "أخطاء الوحدة" وموقف الأطراف المتصارعة. وكنت أتعامل مع هذا البريد على مستويين: الأول علني، أي عبر المجلة، والثاني بالاتصال المباشر عندما يحتاج الأمر إلى ذلك. وصار يساعدني بعد فترة الزميل الياس سحاب.
وقبل نهاية سنة ,1961 وبسبب الانفصال، اتضح لنا، في النواة، ما بيننا من خلافات بشأن ما يجري. وأحس الحزبيون بيننا بحرج موقفهم بين "الولاءين": الولاء إلى الحزب، والولاء إلى الجبهة. وكانت قاعدة النواة قد اتسعت، ومعظم أعضائها من المستقلين الذين كانوا بولاء واحد، يقودهم هدف واحد هو إقامة "التنظيم" وعدم تعريضه لهزات الحزبيين وتناقضاتهم.
وتقرر، حبياً، حل "النواة". غير أن المستقلين من أعضائها ـ وهم نقولا الدر، وسميرة عزام، وسعيد بركة، وعبد القادر الضاهر، وأنا ـ قرروا المضي في عملية البناء، فعكفوا ـ بالتعاون مع عناصر جيدة كانت قد انتمت إلى التنظيم ـ على وضع المبادئ والأنظمة، تمهيداً لانطلاقة جديدة للجبهة. وبعد إنجاز ذلك، ومناقشته مع الأعضاء، شهدت سنة 1963 صدور أول عدد منظم لدورية الجبهة المعروفة بـ"طريق العودة"، بالإضافة إلى نشرات داخلية للأعضاء فقط. ونمت للجبهة فروع خارج لبنان ومخيمات الفلسطينيين، فشملت غزة، وسوريا، والكويت، ومصر، والجزائر، والولايات المتحدة التي كان لنا فيها من أصدقائنا القدامى ـ ولا سيما من أبناء "العامرية" في يافا ـ من ساهم في توزيع "طريق العودة" وضم العديد من الطلبة إلى التنظيم.
ولن أكشف عن كل الأسماء التي ساهمت في بناء الجبهة، وذلك لأسباب تهم ـ في تقديري ـ أصحاب هذه الأسماء أنفسهم، وخصوصاً أن منهم من هجر العمل السياسي ودخل عالم المال والأعمال، ومنهم من التحق بتنظيم آخر بعد إعلاننا حل الجبهة سنة 1969.
لكن يمكنني تسمية بعض من تميزوا، أو رحلوا عن هذه الدنيا: من هؤلاء أود التنويه بالرجل الجليل نقولا الدر، من شفا عمرو، وكان من كبار موظفي شركة النفط العراقية في حيفا، ثم تسلم رئاسة تحرير "الديلي ستار" التي كانت تصدر عن دار "الحياة" في بيروت. كان واسع الثقافة، وعلى خلق عظيم. وهو صاحب الكتاب الشهير بعنوان: "هكذا ضاعت وهكذا تعود: دور النفط والسلاح في تحرير فلسطين". وكان لي شرف طباعته في مطابع "الحوادث" وتوزيعه حيث أمكن. وربما كان نقولا الدر من الأقلية في عالمنا العربي التي اعتبرت منصب "الوزارة" منصباً نضالياً لا مجرد منصب سياسي، كما أنه بالتأكيد ـ في رأي تلك الأقلية ـ ليس منصباً وجاهياً. فلمّا عين عضواً في أول لجنة تنفيذية بادر من اليوم الأول إلى إعداد ملفات المشاريع لعرضها على اللجنة التنفيذية، ثم متابعتها، والإصرار عليها. وكان أول المشرفين على تأسيس مركز الأبحاث الذي كان فايز صايغ أول مدير له.(...)
في الكويت كان للجبهة وجود قوي نشيط بفضل مجموعة من الشباب المستقل الواعي، في مقدمها عثمان أبو حاشية وخليل السالم ووليد ب.، وعصام ب.، وعدنان ح.، ورشاد صالح، ونواف ك.، وأحمد م.، وغيرهم كثيرون ممن كانوا يمولون الجبهة بحاجاتها، ويقومون بتوزيع نشرتها "طريق العودة" بين أوساط الفلسطينيين.
وكانت "الحوادث" جسرنا إلى قطاع غزة وشعبنا هناك. وكان من أوائل المناصرين للجبهة الشاعر معين بسيسو، ومعه عدد كبير ممن كانوا محسوبين على اليسار، بالإضافة إلى مجموعة من الشبان الناصريين الذين كانوا يدرسون في الجامعات المصرية.
أمّا في الولايات المتحدة فقد تولى مهمة تمثيل الجبهة، بالشكل الذي يرتئيه، إبراهيم أبو لغد ومعه رجائي بصيلة وبهاء أبو لبن، وجميعهم من رفاق "العامرية".
وبمناسبة ذكر هذه الأسماء ونشرها، كثيراً ما سئلت عن الرجل الأول في الجبهة، أو من صار يعرف في ما بعد بـ"الأمين العام". ولم تكن إجابتي شافية، لا عن تواضع، ولا عن مغالاة في كتم السر.
وأعتقد أنه آن الأوان لتوضيح هذه المسألة بعد مرور كل هذه الأعوام. أنا واحد من المؤسسين، وإن كنت فعلاً أولهم، لكن هذه الحقيقة لم أعتبرها ذات يوم رتبة تنظيمية، أو سبباً للتزعم. ذلك أنني شخصياً زاهد في المناصب بطبعي. ولم تكن الشهرة تعني الكثير لي، خصوصاً وقد أعطتني الصحافة نصيبي الوافر منها. والحق أن شهرتي الصحافية كانت سباقة على شهرتي السياسية. إضافة إلى ذلك، كنا كرفاق وأصدقاء من المؤمنين فعلاً بأهمية القيادة الجماعية. لكن الأوضاع فرضت عليّ باستمرار أن أكون في الموقع المتقدم؛ فقبل إنشاء الجبهة كان موقعي في "الحوادث" في غاية الأهمية كمركز اتصال وقاعدة لقاء مع مختلف الشخصيات والقيادات. ولمّا أصبحت مديراً لمكتب المنظمة في بيروت بات من الطبيعي أن أكون المسؤول الأول لهذه الجبهة، وخصوصاً بعد أن مثلتها خلال سنتي 1968 و1969 في قيادة منظمة التحرير كعضو في اللجنة التنفيذية.
أضيف إلى ما سبق أننا في الجبهة كنا في حالة تطور مستمرة بحكم سعينا المتواصل لتوحيد فصائل الثورة، كما صرنا ـ في ما بعد ـ من دعاة حل الفصائل ودمج قواعدها وكوادرها في إطار منظمة التحرير ومؤسساتها المتعددة، وهذا ما دعانا إلى حل جبهتنا كقدوة لغيرنا، وقد قمنا برفد المنظمة بكل ما لدينا من إمكانات ومن موارد بشرية.
شهدت هذه الحقبة تحركاً فلسطينياً مكثفاً، وتعددت التنظيمات حتى بلغت ذات يوم سبعة عشر تنظيماً، وكانت في معظمها تتشابه في أهدافها وبرامجها حول تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني. وكانت "فتح"، بين هذه التنظيمات، أكثرها إثارة لفضول المراقبين إذ إن أحداً لم يكن قد سمع بعد بأسماء قادتها من قبل، وكان معظم ما تسرب عن معظمهم أنهم قادمون من خلفيات يمينية تابعة للإخوان المسلمين أو لحزب التحرير الإسلامي. وكانت مجلة "فلسطيننا"، التي تنطق باسمهم وتصدر في بيروت، تعزز هذه الأخبار وتؤكدها.
من التنظيمات المحسوبة على التيار القومي كان أقرب تنظيم إلى جبهتنا تنظيماً يحمل اسماً مشابهاً هو "جبهة التحرير الوطني الفلسطينية ـ ج. ت. ف". لذلك، سرعان ما تم التنسيق بين التنظيمين، ولا سيما في مواقفهما وجهودهما حول "منظمة التحرير الفلسطينية" التي كان الحديث قد بدأ عن إمكان إنشائها. وفي سنتي 1966 و1967 تحالفنا معاً، ونجحنا في إيصال كل من أحمد السعدي وأحمد صدقي الدجاني وكاتب هذه السطور إلى عضوية اللجنة التنفيذية الثالثة لمنظمة التحرير الفلسطينية.
على العكس من ذلك كانت علاقة جبهتنا بمؤسسي "فتح"، ودخلنا معهم في سجالات مستمرة، وكنا نرد على مقولاتهم في مجلة "فلسطيننا"، وعلى ما تكتبه رموزهم في صحف الخليج. أمّا ردودنا فكنا ننشرها في نشراتنا التنظيمية "طريق العودة" وفي مجلة "الحوادث" وغيرها.
كانت محاور الخلاف بيننا متعددة. منها فهمنا لجدلية العلاقة بين القضية الفلسطينية والنضال القومي، ومنها رفضنا لنظرية "التوريط" التي كان خالد الحسن أول المنظرين لها، وتعني ضرورة توريط الأنظمة العربية في الحرب ضد إسرائيل. وهذا ما جعلنا نختلف بشأن الدور العسكري الذي يمكن أن يقوم به الفلسطينيون عبر ما أُطلق عليه وقتئذ "الكفاح المسلح". نحن كنا نقول بأن قرار الحرب والسلم ضد العدو لا بد من أن يكون قراراً قومياً وخاضعاً لاستراتيجيا عربية موحدة، وتديره قيادة على هذا المستوى.
غير أن هذه السجالات لم تقطع حبل التواصل بيننا، واكتشفنا جميعاً أننا ما زلنا بحاجة إلى مزيد من الوقت كي تكتمل معرفتنا بعضنا ببعض، وكي تقوى روابط الصداقة والثقة بيننا.
كان أول لقاء لي مع خليل الوزير "أبي جهاد" في أواسط سنة ,1961 قد تم بترتيب من الأخ الفنان إسماعيل شموط الذي كان له سابق معرفة بكل منا. تأثرت كثيراً بذلك اللقاء، وخرجت بانطباع إيجابي عن الرجل الذي أحسست بأصالته وصفائه وبساطته ـ ربما المبالغ فيها ـ في طرح الأمور وحل الإشكالات.
كان "أبو جهاد" يرى أن فلسطين للفلسطينيين، وقد اغتصبها العدو، وعلينا أن نستردها بالقوة. وإن سألته عن الخلفيات الفكرية والشروط المادية التي لا بد من توفيرها لأي تحرك وطني مسلح، كان يقول إن الثورة ستفرض أفكارها ونظرياتها من خلال الممارسة وعبر التجربة. ومما قاله توكيداً لموقفه أنه لا يعتبر ما يرد في "فلسطيننا" يجسد فكر "فتح". ثم سألني: "هل يمكنك أن تصدق أن رجلاً مثل فاروق القدومي يمكنه أن يوافق على كل ما يصدر في "فلسطيننا" هذه؟". و"أبو اللطف" (فاروق القدومي) كان صديق طفولة في مدرسة المنشية للبنين، وكنت أعرف أنه بعثي الهوية، لكني لم أكن أعرف بعد أنه انتمى إلى حركة "فتح".
بعد أشهر من السنة نفسها (1961)، فاجأني "أبو عمار" بزيارتي في مكتبي في "الحوادث" في بيروت بعد أن رفض تقديم نفسه إلى السكرتيرة.
كان اللقاء سريعاً إذ كان على عجل، في طريقه إلى الجزائر، وتواعدنا على ضرورة متابعة الاتصال للتنسيق والعمل معاً. قال لي وهو يهم بالمغادرة إنه سيقترح أن يكون "أبو إياد" صلة وصل بيننا، باعتبار الأخير "يافاوي" مثلي، الأمر الذي قد يسهل الأمور.
عند الباب سألته:
ـ هل ستمر بالقاهرة في طريقك إلى الجزائر؟
فرد عليّ مدركاً ما رميت إليه وقال:
ـ قريباً إن شاء الله، ونحن نعتمد عليك للتمهيد لمثل هذه الزيارة، لأن الإخوان في القاهرة يحملون صورة مشوشة عنا.
لكن ما حدث في ما بعد هو أن لقاءاتي تمت مع "أبو يوسف النجار" الذي كانت تربط بين أسرتينا علاقة عمل وتجارة. هو من بلدة "يبنا" جنوب يافا ومشهورة ببرتقالها وعزة رجالها. وكان للعلاقات الشخصية ـ وسيبقى ـ الأهمية القصوى في العمل السياسي، لما لها من اعتبارات في تقاليدنا، الأمر الذي أذاب الكثير من سوء التفاهم بيننا وبين "فتح"، فتحول السجال السلبي إلى حوار إيجابي واتفاقات في ما يتعلق بالنقاط المشتركة.
أمّا علاقة جبهتنا بحركة القوميين العرب، قبيل إقدامها على إنشاء "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، فقد كانت تتراوح بين المجاملة والسلبية. أمّا المجاملة، فبسبب توازي موقفينا من مسألة الانفصال، ووقوفنا إلى جانب عبد الناصر وضد البعثيين. وأمّا السلبية، فبسبب اختلاف موقفينا من مشروع تكليف الشقيري لتنظيم الحياة السياسية الفلسطينية ومحاولة رد الروح إلى مؤسساتنا الوطنية. فلقد كانت حركة القوميين العرب، كما اتضح في ما بعد، تعاني أزمات داخلية على المستوى الأيديولوجي. فهي لم تقطع اتصالها بالشقيري، لكنها كانت سلبية إزاء تحركه. وكان غسان كنفاني، الكاتب في جريدة "المحرر" اللبنانية، يعبر عن موقف الحركة هذا، وربما بقسوة أشد. وكان هو بين المعنيين ـ من الحركة ـ في ما يمكن تسميته "شعبة فلسطين" ومعه أحمد اليماني وعبد الكريم حمد وصلاح صلاح و""صبري" الذي لم يكن سوى نايف حواتمة الذي انشق في ما بعد عن "الجبهة الشعبية" بعد اشتباكات دموية في الأردن سنة ,1968 وقام بتأسيس "الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين".
يبقى بعد ذلك تنظيمان مؤثران في الساحة هما "الصاعقة" و"جبهة التحرير العربية"، وكانا يمثلان على التوالي كلاً من البعث السوري والبعث العراقي. لذلك كانت مواقف وعلاقات جبهتنا بهذين التنظيمين محكومة بمواقفنا وعلاقاتنا بدمشق وبغداد. وعندما انشق أحمد جبريل مع رهطه عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وأنشأ تنظيمه المستقل بالاسم نفسه بعد إضافة "القيادة العامة" إليه، فقد كان هو الآخر سوري الهوى، وربما أقرب إلى الدولة منه إلى الحزب.
أمّا صلة الوصل بأحمد الشقيري قبل ولادة المنظمة، فقد كانت المهندس حامد أبو ستة، وهو من عرب "الطرابين" في النقب، ولأسرته شأن بين بدو فلسطين. وعلى الرغم مما بدا على الأخ حامد من بساطة فلقد أثبت في مسيرتيه الشخصية والعامة ذكاء حاداً وقدرة على النجاح. كان من أوائل الفلسطينيين الذين جمعوا ثروة طائلة، وأول من تبرع للمنظمة قبيل إنشائها بخمسين ألف دولار، وقد فاق هذا المبلغ ـ يومذاك ـ تبرعات للمنظمة من حكام وأمراء عرب؛ كما كان الأوحد الذي تم تعيينه في أول لجنة تنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وبقي في موقعه حتى سنة 1984.
علمت من حامد أنه كان من جملة الشبان الذين بادروا إلى التحرك الثوري قبل النكبة، وقد كان أخي الشهيد "جمال" واحداً من مجموعة ضمت كلا من: عثمان أبو حاشية؛ مصطفى عبد الحفيظ؛ مصطفى البنا؛ رشاد صالح؛ عادل صهيون؛ سعيد السبع؛ صالح البرانسي. وقد بقي البرانسي في فلسطين المحتلة حيث أمضى في السجن نحو ثمانية عشر عاماً. وكانت تلك المعلومة عن ذاك التحرك الثوري "جواز سفر" حامد بالنسبة إليّ، وشعرت بارتياح إلى ما سمعت منه بأن "عدم معرفة" شباب فلسطين بعضهم ببعض هو سبب فرقتهم وانعدام الثقة في ما بينهم، الأمر الذي أدى إلى هذا التقوقع التنظيمي على أسس المعرفة الذاتية لا أكثر.
بعد أسبوع من لقائي حامد أبو ستة، وكان الشقيري قد حضر إلى بيروت، دعوته إلى منزلي للقاء جمعت له فيه، بالإضافة إلى قياديي الجبهة، عدداً من الشخصيات الفلسطينية الموجودة في العاصمة اللبنانية. كنا سمعنا بالشقيري ومسيرته، فهو من المخضرمين، وتلك كانت أول مرة نلتقي فيها الرجل مباشرة وفي أجواء مكاشفة. ولا شك في أن للرجل قدرات هائلة، وهو بحكم مهنته كمحام ودبلوماسي، يتقن الحديث إلى مستمعيه حتى حدود الاستئثار بالكلام.
وقد تتابعت اللقاءات وتواصلت بيننا وبين الشقيري. وقمت بدوري، عبر "الحوادث"، بتسليط الأضواء على تحركاته، وتغطية تنقلاته، بقصد المساهمة في ترويج فكرة قيام "الكيان الوطني الفلسطيني"، الذي بات يعرف في ما بعد بـ"منظمة التحرير الفلسطينية". ولم تخل كتاباتي من طرح لتصورات الجبهة بشأن هيكلية هذا الكيان والمضامين السياسية المطلوب تأمينها في وثائقه المتوقعة.
المصدر: صحيفة السفير اللبنانية 21/4/2007 (الأجزاء المختارة) و18/5/2007 (عرض الكتاب).
